السؤال
ما حكم دم الاستحاضة؟ وكيف تتطهر المستحاضة؟ وهل يجوز للمستحاضة قراءة القرآن؟
الاستحاضة حدث أصغر، وتأخذ المستحاضةُ حكمَ الطاهرات في وجوب العبادات وفعلها؛ فلا تسقط عنها الصلاة ولا الصيام، ويجوز لها قراءة القرآن ومس المصحف، وكذلك دخول المسجد والطواف بالكعبة المشرفة إذا أمنت التلويث، كما يجوز ممارسة العلاقة الزوجية من غير حرج عليها ولا على زوجها في ذلك.
وتُطالبُ المستحاضة بحبس الدم ما أمكنها ذلك، وتتوضأ لوقت كل صلاة تصلي به ما شاءت من الفرائض والنوافل وفعل كل عبادة تحتاج إلى وضوء إن استطاعت ذلك من غير حرج، وإلا فلا ينتقض وضوؤها إلا بالحدث الخارج منها وفق العادة على وجه الصحة.
الاستحاضة لغة: مصدر، وقد عرفها العلامة الفيومي في "المصباح المنير" (1/ 159، ط. دار الكتب العلمية) بأنها: "دم غالب ليس بالحيض، واستحيضت المرأة فهي مستحاضة مبنيا للمفعول"؛ فالمستحاضة هي: مَن يسيل دمها ولا يرقأ، في غير أيام معلومة، لا من عرق الحيض، بل من عرق يقال له: العاذل.
وقد عرَّف فقهاء الحنفية الاستحاضة بأنها: دم عرق انفجر ليس من الرحم؛ قال العلامة الشرنبلالي الحنفي في "مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح" (ص: 63، ط. المكتبة العصرية): [وهو دم عرق انفجر ليس من الرحم وعلامته أن لا رائحة له].
وعرفها فقهاء الشافعية بأنها: دم علة يسيل من عرق من أدنى الرحم يقال له العاذل؛ قال العلامة الرملي في كتابه "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (1/ 334، ط. دار الفكر): [والاستحاضة: سيلانه؛ أي: الدَّم، في غير أوقاته، ويسيل من عرق في أدنى الرَّحِم يُسمى العاذل، بكسر الذَّال الْمُعْجَمَة] اهـ بتصرف.
وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دم الحيض وفرَّق بينه وبين دم الاستحاضة فيما رواه الدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ خَاثِرٌ تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ، وَدَمُ الْمُسْتَحَاضَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ»، وفي رواية: «دَمُ الْحَيْضِ لَا يَكُونُ إلَّا أَسْوَدَ غَلِيظًا تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ دَمٌ رَقِيقٌ تَعْلُوهُ صُفْرَةٌ»، وروى النسائي وأبو داود عن السيدة فاطمة بنت جحش رضي الله عنها: أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضٍ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي»، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "أما من رأت الدم البحراني فإنها تدع الصلاة"، وقال: "والله لن ترى الدم الذي هو الدم بعد أيام حيضها إلا كغسالة ماء اللحم".
والمقصود بالدم البحراني دم الحيض؛ قال العلامة ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/ 99، ط. المكتبة العلمية): [الدم البحراني: دم بحراني شديد الحمرة، كأنه قد نسب إلى البحر وهو اسم قعر الرحم، وزادوه في النسب ألفًا ونونًا للمبالغة، يريد الدم الغليظ الواسع، وقيل: نسب إلى البحر لكثرته وسعته] اهـ.
وقد اختلف الفقهاء في أقل مدة الحيض وأكثره؛ فيرى الحنفية أنَّ أقله ثلاثة أيام بلياليها، فما قل عنها ولو ثلث يوم كان استحاضة، وأن أكثره عشرة أيام بلياليها، فإذا زاد عنها ولو ساعة كان استحاضة؛ قال الإمام العلامة محمد بن الحسن الشيباني في "الأصل المعروف بالمبسوط" (1/ 458-459، ط. إدارة القرآن والعلوم الإسلامية): [وأقل ما يكون الحيض ثلاثة أيام ولياليها، لا ينقص من ذلك شيئا، وأكثر الحيض عشرة أيام ولياليها لا يزيد على ذلك شيئا، فإن رأت المرأة الدم يومين وثلثي يوم ثم انقطع ذلك لم يكن ذلك حيضا حتى يكون ما بين أول الدم وآخره ثلاثة أيام ولياليها لا ينقص من ذلك شيء؛ ألا ترى أن الدم لو زاد على عشرة أيام ولياليها ساعة كانت تلك الساعة استحاضة، فكذلك النقصان إذا نقص الدم من ثلاثة أيام ولياليها شيئًا لم يكن ذلك حيضًا؛ لأن الأثر جاء أنَّ أدنى الحيض ثلاثة وأكثره عشرة] اهـ.
أما فقهاء المالكية فيرون أنه لا حد لأقل الحيض، وأن أكثره خمسة عشر يومًا، فما زاد عن ذلك كان استحاضة؛ قال العلامة أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي في "التلقين في الفقه المالكي" (1/ 32، ط. دار الكتب العلمية): [وأقل الحيض والنفاس لا حد له، وأكثر الحيض خمسة عشر يومًا، وأكثر النفاس ستون يومًا، ولا حد لأقل الاستحاضة ولا أكثرها، ولا بد من طهر يفصل بين الحيضتين، وأقله خمسة عشر يومًا على الظاهر من المذهب، ولا حد لأكثره] اهـ.
ويرى فقهاء الشافعية والحنابلة أنَّ أقل مدة الحيض يوم وليلة، فما قل عن ذلك كان استحاضة، وأن أكثره خمسة عشر يومًا، فما زاد عن ذلك كان استحاضة، وفي قول للحنابلة: ليس هو المذهب أن أكثره سبعة عشر يومًا؛ قال العلامة الشيرازي في "التنبيه في الفقه الشافعي" (ص: 21-22، ط. عالم الكتب): [أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين، وأقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يومًا، وغالبه ست أو سبع، وأقل طهر فاصل بين الحيضتين خمسة عشر يومًا، ولا حد لأكثره] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة المقدسي في "المقنع في فقه الإمام أحمد" (ص: 38، ط. مكتبة السوادي): [وأقل الحيض يوم وليلة، وعنه يوم، وأكثره خمسة عشر يومًا، وعنه سبعة عشر، وغالبه ست أو سبع، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يومًا، وقيل: خمسة عشر يومًا، ولا حد لأكثره] اهـ.
والراجح ما ذهب إليه فقهاء الشافعية والحنابلة، وهو ما عليه الفتوى، أن أقل مدة الحيض يوم وليلة، فما قل عن ذلك كان استحاضة، وأن أكثره خمسة عشر يومًا، فما زاد عنها كان استحاضة كذلك.
فالمستحاضة: ذات دمٍ نقص عن أقل مدة الحيض؛ أي: يوم وليلة، أو زاد على أكثره؛ أي: خمسة عشر يومًا، أو زاد على عادتها في أقل مدة الحيض والنِّفاس وتجاوز أكثرهما، أو آيسة، أو صغيرة لم تبلغ سن الحيض.
وقد نص فقهاء الحنفية على أن المستحاضة تتوضأ لوقت كل فرض، لا لكل فرض، ولا لكل نفل، وتصلي به ما شاءت من الفرائض والنوافل في الوقت، ويبطل وضوؤها بخروج الوقت عند أبي حنيفة ومحمد، ويجب أن تستأنف الوضوء للوقت الآخر؛ قال العلامة الشرنبلالي الحنفي في "مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح" (ص: 63، ط. المكتبة العصرية): [(ومن به عذر كسلس بول أو استطلاق بطن) وانفلات ريح ورعاف دائم وجرح لا يرقأ ولا يمكن حبسه بحشو من غير مشقة ولا بجلوس ولا بالإيماء في الصلاة فبهذا يتوضؤون (لوقت كل فرض) لا لكل فرض ولا نفل؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لوقت كُلِّ صَلَاةٍ» رواه سبط ابن الجوزي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فسائر ذوي الأعذار في حكم المستحاضة؛ فالدليل يشملهم (وُيصلُّون به)؛ أي: بوضوئهم، في الوقت (ما شاؤوا من النوافل) والواجبات كالوتر والعيد وصلاة جنازة وطواف ومس مصحف (ويبطل وضوء المعذورين) إذا لم يطرأ ناقض غير العذر (بخروج الوقت) كطلوع الشمس في الفجر عند أبي حنيفة ومحمد] اهـ.
وكذلك فقهاء الحنابلة يرون أنها تتوضأ لوقت كل صلاة؛ قال العلامة ابن قدامة المقدسي في "المقنع في فقه الإمام أحمد" (ص: 39، ط. مكتبة السوادي): [والمستحاضة تغسل فرجها وتعصبه وتتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي ما شاءت من الصلوات] اهـ.
أما فقهاء الشافعية فيرون أنها تتوضأ لكل فريضة كذلك؛ قال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (2/ 535، ط. دار الفكر): [(ولا تصلي بطهارةٍ أكثر من فريضةٍ؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش، ويجوز أن تصلي ما شاءت من النوافل؛ لأن النوافل تكثر، فلو ألزمناها أن تتوضأ لكل نافلة شق عليها) (الشرح): مذهبنا أنها لا تصلي بطهارة واحدة أكثر من فريضة مؤداة كانت أو مقضية] اهـ.
أما الإمام مالك رحمه الله فعنده أن الوضوء لكل صلاة إنما هو على جهة الاستحباب؛ قال العلامة ابن رشد الحفيد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (1/ 65، ط. دار الحديث): [وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طُهرًا واحدًا انقسموا قسمين: فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها، والذين أوجبوا عليها طهرًا واحدًا فقط هم: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم، وأكثر فقهاء الأمصار، وأكثر هؤلاء أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحبابا، وهو مذهب مالك] اهـ.
وعلى هذا فالمستحاضة لها أحكام خاصة تختلف عن أحكام الأصِحَّاء، وعن أحكام الحائض والنُّفَساء، فحكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات وفعلها؛ لأنها نجاسةٌ غير معتادة، فيجب على المستحاضة ردُّ دم الاستحاضة بحشوٍ ونحوه، أو تخفيفه برباط إذا تعذر ردُّه بالكلية، أو بالقيام أو بالقعود، كما إذا سال أثناء السجود ولم يسل بدونه، فتومئ من قيام أو من قعود، وكذا لو سال الدم عند القيام صلت من قعود؛ لأن ترك السجود أو القيام أو القعود أهون من الصلاة مع الحدث.
فإذا كانت المستحاضة تستطيع منع سيلان الدم بالاحتشاء لزمها ذلك، فإذا نفذت البلة من الحشو، أو خرجت الحشوة المبتلة انتقض وضوؤها، فإذا ردَّت المستحاضةُ الدَّمَ بسبب من الأسباب المذكورة أو نحوها خرجت عن أن تكون صاحبة عذر.
ويتبين مما سبق كذلك أن الاستحاضة حدث أصغر، فلا يثبت للمستحاضة شيء من أحكام الحائض، وقد نص الفقهاء على ذلك، وأجمعوا على جواز قراءتها للقرآن، وأنها إذا توضأت جاز لها أن تمس المصحف؛ قال العلامة الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (2/ 542، ط. دار الفكر): [يجوز وطء المستحاضة في الزمن المحكوم بأنه طهر، ولا كراهة في ذلك وإن كان الدم، هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، وقد سيقت المسألة بدلائلها في أول الباب، ولها قراءة القرآن وإذا توضأت استباحت مس المصحف وحمله وسجود التلاوة والشكر، وعليها الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات التي على الطاهر، ولا خلاف في شيء من هذا عندنا. قال أصحابنا: وجامع القول في المستحاضة أنه لا يثبت لها شيء من أحكام الحيض بلا خلاف، ونقل ابن جرير الإجماع على أنها تقرأ القرآن وأن عليها جميع الفرائض التي على الطاهر] اهـ.
وبناءً على ذلك: فالاستحاضة حدث أصغر، فلا تُسقطُ الصلاةَ ولا تَمنعُ صحتها؛ رخصة للضرورة، ولا تمنع الجماع، ولا تُحرِّم الصومَ فرضًا أو نفلًا، ولا قراءة القرآن، ولا مس المصحف، ولا دخول المسجد أو الطواف إذا أمنت التلويث، والمستحاضة تُطالبُ بحبس الدم ما أمكنها ذلك، وتتوضأ لوقت كل صلاة على سبيل الوجوب عند الجمهور، وعلى سبيل الاستحباب كما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.