حكم الإفطار في رمضان لمن يعمل عملًا...

حكم الإفطار في رمضان لمن يعمل عملًا فيه مشقة شديدة

السؤال

ما حكم الشرع في صيام رمضان عندما يكون المسلم يعمل عملًا ذا مشقة بالغة؟ حيث يعمل الناس في بلدنا في الزراعة مع درجة الحرارة المرتفعة؛ حيث إن الزراعة عندنا موسمية، فلا يستطيع الناس أن يؤجلوا الزراعة إلى ما بعد رمضان، فهي مصدر رزقهم الوحيد، فما الحكم الشرعي في الأيام التي يجدون فيها مشقة ويفطرون فيها؟

يجوز لهؤلاء المزارعين الذين يزرعون في الحرِّ الشديد أو في اليوم الطويل؛ بحيث لا يستطيعون الصيامَ إلا بمشقة شديدة، ولا يمكنهم تأجيلُ عملهم إلى الليل أو إلى ما بعد رمضان، أن يُفطِرُوا عند حصول المشقة الشديدة في أثناء النهار؛ بحيث يجب تبييت نية الصيام من الليل ثم الفطر عند حصول المشقة، ثم عليهم القضاءُ بعد رمضان وقبل حلول رمضان التالي إن أمكنهم ذلك.

من المقرر شرعًا أن من شرائط وجوب الصيام القدرةَ عليه، والقدرةُ التي هي شرط في وجوب الصيام كما تكون حِسِّيَّةً تكون شرعيةً، فالقدرة الشرعية تعني الخلو من الموانع الشرعية للصيام؛ وهي الحيض والنفاس.

وأما القدرة الحسية فهي طاقة المكلف للصيام بدنيًّا؛ بألا يكون مريضًا مرضًا يشقُّ معه الصيام مشقة شديدة، أو لا يكون كبير السنِّ بدرجة تجعله بمنزلة المريض العاجز عن الصوم، أو لا يكون مسافرًا، فإن السفرَ مظنةُ المشقة كما قال عنه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «السَّفَرُ قطعةٌ مِنَ العَذاب، يَمنَعُ أَحدَكم طَعامَه وشَرابَه ونَومَه» رواه الشيخان.
وقد أُنزِلَتِ المَظنَّة مَنزِلةَ المَئنة، فالسفر مانع من وجوب الصيام وإن لم تكن هناك مشقة بالفعل، وهذا من رحمة الله تعالى بالمكلفين، ومن يُسر هذه الشريعة الغراء.
ومن القدرة الحسية أيضًا ألَّا يكون المكلف يعمل عملًا شاقًّا لا يستطيع التخليَ عنه في نهار رمضان؛ لحاجته أو لحاجة مَن يَعُول، فإن كان المكلفُ لا يَتَسَنَّى له تأجيلُ عملِه الشاقِّ لِما بعد رمضان، أو جعلُه في لياليه، فإن الصيام لا يجب عليه في أيام رمضان التي يحتاج فيها إلى أن يعمل هذا العمل الشاق في نهاره؛ من حيث كونه محتاجًا إليه في القيام بنفقة نفسه أو نفقة مَن عليه نفقتهم، كعمل البنَّائين والحمَّالين وأمثالهم، وخاصة من يعملون في الحر الشديد، أو لساعات طويلة.
قال العلامة الحطَّاب المالكي في "مواهب الجليل شرح مختصر خليل" (2/ 441، دار الفكر): [وقال البرزلي: مسألة: الحكم في غبار الكتان وغبار الفحم وغبار خزن الشعير والقمح كالحكم في غبار الجباسين، قال: وعلى هذا يقع السؤال في زماننا إذا وقع الصيام في زمان الصيف فهل يجوز للأجير الخروج للحصاد مع الضرورة للفطر أم لا؟ كانت الفتيا عندنا: إن كان محتاجًا لصنعته لمعاشه ما له منها بد فله ذلك وإلا كُرِه، وأما مالك الزرع فلا خلاف في جواز جمعه زرعه وإن أدى إلى فطره، وإلا وقع في النهي عن إضاعة المال وكذا غزل النساء الكتان وترقيق الخيط بأفواههن، فإن كان الكتان مصريًّا فجائز مطلقًا، وإن كان دَمنيًّا له طعم يتحلل فهي كذوي الصناعات إن كانت ضعيفة ساغ لها ذلك، وإن كانت غير محتاجة كره لها ذلك في نهار رمضان] اهـ.
ولكن هؤلاء يجب عليهم تبييت النية؛ أي إيقاع النية من الليل، ولا يفطرون إلا في اليوم الذي يغلب على ظنهم فيه أنهم سيزاولون هذا العمل الشاق الذي يعلمون بالتجربة السابقة أنهم لا يستطيعون معه الصيام؛ تنزيلًا للمظِنَّةِ منزلةَ المَئِنَّة؛ يقول الشيخ البيجوري في "حاشيته على فتح القريب لابن قاسم شرح متن أبي شجاع" (1/ 314، ط. عيسى الحلبي): [وللمريض إن كان مرضه مُطبِقًا تركُ النيةِ من الليل، وإن لم يكن مُطبِقًا كما لو كان يُحَمُّ وقتًا دون وقت وكان وقتَ الشروع في الصوم محمومًا فله تركُ النيةِ من الليل، وإلا فعليه النيةُ ليلًا أي لانتفاء العذر وقت الشروع الذي هو وقت النية، ومثله الحَصَّادون والزَّرَّاعون والدَّرَّاسون ونحوهم، فتجب عليهم النية ليلًا، ثم إن احتاجوا للفطر أفطروا، وإلا فلا، ولا يجوز لهم ترك النية مِن أصلها كما يفعله بعضُ الجهلة، فإن عادتِ الحمى واحتاج للفطر أفطر] اهـ.
وعليه وفي واقعة السؤال: فيجوز للمزارعين في بلدكم الذين يزرعون في الحر الشديد أو في اليوم الطويل بحيث لا يستطيعون الصيامَ إلا بمشقة شديدة، ولا يمكنهم تأجيلُ عملهم لليل أو لما بعد رمضان، أن يُفطِرُوا، مع وجوب إيقاعِهم نيةَ الصيام من الليل، ثم إن شاءوا أفطروا في اليوم الذي يغلب على ظنهم فيه أنهم سيزاولون العمل الذي يعسر معه الصيامُ، وعليهم القضاءُ بعد رمضان وقبل حلول رمضان التالي إن أمكنهم ذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

مشاركة المحتوى