الحساب الفلكي والوسائل العلمية الحد...

الحساب الفلكي والوسائل العلمية الحديثة في تحديد بدايات الشهور القمرية

السؤال

ما دور الحساب الفلكي والوسائل العلمية الحديثة في تحديد بداية الشهور الهجرية؟ وما هو الرأي الشرعي في البحث المسمى: "الجدلية العلمية بين علماء الفلك وعلماء الشريعة حول بدايات ونهايات الشهور القمرية" لكاتبه السيد/ عبد السلام مهاجر خليفة قريرة، فوجدناه يدور حول عدة قضايا؛ منها:
- قضية الخلاف بين علماء الفلك وعلماء الشريعة.
- وقضية اعتبار الحساب الفلكي في إثبات هلال شهور رمضان وشوال وذي الحجة، باعتبارها حجر الزاوية بين الشهور القمرية.
- وقضية اختلاف المطالع، وأثرها على ثبوت دخول الشهر.
- وقضية شروق الشمس والقمر وغروبهما في الحسابات الفلكية، وفي القرآن الكريم.
- وقضية الصيام والحج، وما يترتب عليهما من عبادات.
- وقضية المراكز الفلكية واختلاف معاييرها.
- وقضية ميلاد الهلال، ورؤية الهلال.
- وقضية الوسائل العلمية الحديثة في التماس هلال أوائل الشهور القمرية، ومنها القمر الاصطناعي، وإمكانية بث صورة الهلال بعد غروب شمس التاسع والعشرين؛ ليراها جميع المسلمين في كل بقاع الأرض.
- وقضية الفرق بين علم الفلك، ومهنة التنجيم.
- وقضية توحيد أوائل الشهور القمرية لجميع المسلمين في العالم.

بعد القراءة المتأنية للقضايا المطروحة في البحث المشار إليه، واستشارة المتخصصين في علم الفلك في المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، نفيد بما يأتي:
أما القضية الأولى، وهي المتعلقة باعتبار الحساب الفلكي: فإن الحساب الفلكي أحد وسائل إثبات ظهور الهلال، وقد دلت الأدلة من القرآن والسنة المطهرة والمعقول على أخذ واعتبار الحساب الفلكي، وجمهور العلماء على اعتباره، وأن معارضته للرؤية البصرية الصحيحة غير ممكن؛ فإن الحساب الفلكي قطعيٌّ، ولمّا كانت الرؤية البصرية مظنة الخطأ: فإنها إن خالفت الحساب الفلكي فلا يعتد بها؛ لأن القطعيَّ مقدمٌ على الظني.
وأما قضية الفرق بين علم الفلك ومهنة التنجيم: فإن مهنة التنجيم عبارة عن حدس وتخمين، وليس فيها قطع ولا ظن غالب، والحكمُ فيها حكمٌ بجهل؛ ولهذا فهو مذموم، أما علم الفلك فهو علم قطعي؛ لابتنائه على قوانين قطعية، وهو من فروض الكفايات التي تأثم الأمة جميعًا لو عُدم فيها مَن يعلمه؛ لكونه تتوقف عليه جملةٌ من مصالح الدين والدنيا لا تتم إلا بمعرفته ودراسته.
وأما قضية ميلاد الهلال، ورؤية الهلال: فميلاد الهلال هو اللحظة التي يعبر فيها مركز القمر خط الاقتران أو الاجتماع، وهو الخط الواصل بين مركزي الأرض والشمس، وتقع هذه اللحظة ما بين منتصف ليل التاسع والعشرين وصباح يوم الثلاثين من الشهر القمري.
ورؤية الهلال هي اللحظة التي يُرى فيها ضوءُ القمر من سطح الأرض بعد افتراقه وابتعاده 8 درجات على الأقل عن خط الاقتران، فإذا جاءت هذه اللحظة بعد غروب الشمس، وكانت الظروف الجوية مواتيةً، وفترة المكث لا تقل عن عشر دقائق، أمكن رؤية الهلال، وهي الرؤية التي يعول عليها في الحكم بدخول الشهر من عدمه، ولا تعتمد على موعد ميلاد الهلال.
وأما قضية شروق الشمس والقمر وغروبهما في الحسابات الفلكية، وفي القرآن الكريم:
- فالإفراد في "المشرق والمغرب" يدل على الاتجاه ناحية الشرق وناحية الغرب، واتجاه المشرق والمغرب هو الذي يحدد اتجاه الجهات الأصلية التي تعتبر الأصل في اتجاهات المواقع، والتي منها تحدد اتجاهات القبلة، بحيث يتحقق شرط أقصر مسافة إلى الكعبة.
- والتثنية في "المشرقين والمغربين" تتوافق مع الحقيقة العلمية في أن لكل نقطة على مسار الشمس السنوي مشرقين؛ حيث تشرق الشمس مرتين على كل نقطة في مسارها.
- والجمع في "مشارق الأرض ومغاربها" يتفق مع ما تقول به الحقيقة الفلكية؛ من أن الشمس تغير موقع شروقها وغروبها ربع درجة يوميًّا.
وأما القضية المتعلقة باختلاف المطالع: فإن العلماء قد اختلفوا في اعتباره من عدمه في خصوص ما يترتب على رؤية الهلال في إحدى البلدان؛ من وجوب الصوم أو الفطر على غيرها التي لم يُشاهَد فيها الهلال.
فذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع؛ بمعنى أنه إذا رأى الهلالَ أهلُ بلدٍ ولم يره أهلُ بلدٍ آخر وجب عليهم أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان.
وذهب آخرون إلى أن هلال رمضان إذا رؤي في بلد ولم يُرَ في غيرها؛ فإِنْ تقارب البَلَدَان فهما كالبلد الواحد، ويَلزمُ أهلَ البلد الآخر الصومُ، وإن تَبَاعَدَا فلا يجب الصوم على أهل البلد الآخر.
ونقل العلامة ابن المنذر أن رؤية الهلال لا تلزم غير أهل بلد الرؤية.
والذي عليه قرار مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة: أنه لا عبرة باختلاف المطالع وإن تباعدت الأقاليم متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية وإن قل، ويكون اختلاف المطالع معتبرًا بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة. اهـ.
وأما قضية القمر الاصطناعي، وإمكانية بث صورة الهلال بعد غروب شمس التاسع والعشرين ليراها جميع المسلمين في كل بقاع الأرض: فإن هذا المشروع قَطَعَ مرحلة كبيرة من مراحل تنفيذه، وأُجرِيَت له دراسات جادة وتم الاتفاق على كثير من جوانبه، بحيث يتم رصد الهلال بهذا القمر عن طريق تلسكوب محمول على ظهر القمر الاصطناعي، ويوجَّه هذا التلسكوب في يوم التاسع والعشرين من الشهر العربي إلى أفق الرؤية بعيدًا عن السحب والموانع الجوية المختلف؛ فإذا كان الهلال موجودًا فوق الأفق يتم إرسال صورته إلى شاشات التلفاز العادية، وبذلك يراه كل المشاهدين رَأْيَ العين، ويقطع القمر الصناعي دورته حول الأرض في حوالي ساعة ونصف.
وأما قضية اعتبار الحساب الفلكي في إثبات هلال شهور رمضان وشوال وذي الحجة، باعتبارها حجر الزاوية بين الشهور القمرية: فإن هذه القضية تسبب الالتباس والاضطراب، وهي حالة غير قاطعة، وتتأثر فيها رؤية الهلال باختلاف المطالع، وفيها يكون اختلاف المطالع بين الشرق والغرب ذا تأثيرٍ كبير، وهي حقيقة علمية تنشأ من طبيعة مدار القمر حول الأرض، ويجب أن تؤخذ في الاعتبار عند اتخاذ أي قرار، وتنقسم إلى ثلاث حالات رئيسة:
1- أن يغرب القمر بعد غروب الشمس في معظم البلاد العربية والإسلامية، ويغرب في بعضها قبل غروب الشمس، وفي هذه الحالة يكون لكل بلدٍ مطلعه الذي يُحكَمُ فيه بدخول الشهر من عدمه، وهذا جائزٌ شرعًا.
2- أن يغرب القمر قبل غروب الشمس في معظم البلاد العربية والإسلامية، ويغرب في بعضها بعد غروب الشمس.
3- أن يغرب القمر قبل غروب الشمس في نصف البلاد تقريبًا، ويغرب بعد غروبها في النصف الآخر تقريبًا، وفي الحالتين السابقتين -الثانية والثالثة- قد يؤخذ بمبدأ اختلاف المطالع كما في الحالة الأولى، أو لا يؤخذ؛ وذلك تبعًا لما يقرره أولو الأمر في هذا الصدد.
وأما قضية توحيد أوائل الشهور القمرية لجميع المسلمين في العالم فإنه يجب أن تتوافر في الشاهد العدل عدة شروط شرعية وفلكية: فيجب أن يكون صحيح البدن، بَيِّنَ العقل، صحيح البصر -ولا يشترط أن يكون حادًّا-، مشهودًا له بالتقى والورع، على علم بمكان وزمان وهيئة الهلال أثناء التماسه. ويكون على أولي الأمر الذين لهم سلطة إصدار قرار الصيام أو الإفطار أن يختبروا قدرات الشاهد البدنية والنفسية والعلمية على ضوء ما تحدده الحسابات الفلكية عن ظروف الرؤية وحالة الهلال إِبَّان التماسه.
وأما قضية المراكز الفلكية واختلاف معاييرها: فإن المراصد الفلكية هي المؤسسات الحكومية التي أنشأتها الدولة بقرارات رسمية، وتحوي بين جدرانها أجهزةً وآلاتٍ فلكيةً قديمةً أو حديثةً متطورةً تستخدم في عمليات الرصد المختلفة، ويقوم بالعمل على هذه الأجهزة فلكيّون حاصلون على الأقل على الدرجة الأولى في علم الفلك -البكالوريوس-، ويمارسون القيام بالبحوث الفلكية في سبيل الحصول على الماجستير في علم الفلك، بما يتيح لهم أن يكونوا أعضاءً في الاتحاد الدولي الفلكي، وهو أقدم مؤسسة فلكية بين جميع المؤسسات العلمية في العالم.

المحتويات

 

إثبات الأهلة بالحساب الفلكي وأقوال العلماء في ذلك

بعد القراءة المتأنية لهذه القضايا المطروحة في البحث، واستشارة المتخصصين في علم الفلك في المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، نفيد بما يأتي: أما القضية الأولى، وهي المتعلقة باعتبار الحساب الفلكي: فإن الشرع الشريف قد جعل من التعرف على بدايات الشهور القمرية بظهور هلالها بعد غروب الشمس تكليفًا لازمًا؛ لأنه يرتبط به إيقاع جملة من العبادات في وقتها المُقَدَّر لها شَرعًا،كالصوم، والإفطار، والزكاة، والحَج، والعدة وغيرها، فكان ذلك مما لا يتم الواجب إلا به، والقاعدة أن: "ما لا يَتِم الواجِب إلا بِهِ فهو واجِب".
وقد قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189]، قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (1/ 474-475، ط. دار الفكر): [سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك: أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها] اهـ.
وإثبات ظهور الهلال بعد غروب الشمس من عدمه يمكن تحقيقه، إما بالرؤية البصرية أو بالحساب الفلكي، واعتبار الرؤية البصرية لا إشكال فيه، فهو ما ورد به نَصُّ الشرع؛ فروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" -واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّىَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ».
والمراد برؤية الهلال في الشرع: مشاهدته بالعين بعد غروب شمس يوم التاسع والعشرين من الشهر السابق ممن يُعتَمَد خبره وتُقبَل شهادته؛ فيثبت دخول الشهر برؤيته.
وأما الحساب الفلكي فقد نصَّ كثير مِن الفقهاء قديمًا وحديثًا على اعتباره؛ إما على جهة الاستئناس أو على جهة الاعتماد، وممن نُقِل ذلك عنه: التابعي الجليل مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير [ت95هـ]؛ فقد حَكَى عنه الإمام القرطبي في "تفسيره" (2/ 293، ط. دار الكتب المصرية)، وعن الإمام أبي بكر بن قتيبة: أنهما ذكرا أن معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَاقْدُرُوا لَهُ» أي: [استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه،... ونقل عن الداودي أيضًا أن معناه: قدروا المنازل] اهـ.
ونقل الإمام أبو الوليد ابن رشد في "بداية المجتهد" (1/ 228، ط. دار الفكر) عن مطرف بن الشخير أنه قال: [إذا أغمي الهلال، رجع إلى الحساب بمسير القمر والشمس] اهـ.
ونقل الحافظ العيني الحنفي في "عمدة القاري" (10/ 387، ط. دار الكتب العلمية) هذا المذهب عن ابن قتيبة الدينوري [ت276هـ]، وبه قال الإمام نجم الدين الزاهدي الخوارزمي [ت658هـ] صاحب القُنية وهي "قنية المنية لتتميم الغنية" من أكابر علماء الحنفية؛ حيث قال فيها (ص: 68، ط. مطبعة المهانند): [(قع جمع) لا بأس بالاعتماد على قول المنجمين، وعن محمد بن مقاتل -وهو الرازي، من أصحاب الإمام محمد بن الحسن- أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم بعد أن يتفق على ذلك جماعة منهم] اهـ. و(قع) يعني القاضي عبد الجبار، و(جمع) يعني صاحب جامع العلوم -على اصطلاح صاحب "القنية"-.
وذكر الإمام القرافي المالكي في "الفروق" (2/ 178، ط. عالم الكتب) أن هناك قولين في مذهب الإمام مالك في إثبات الأهلة بالحساب. وهو أيضًا أحد الأَوجُه في مذهب الشافعية، قالوه فيما إذا عَرَفَ رجل بحساب المنازل أن غدًا من رمضان فإنه يصوم؛ لأنه عرف الشهر بدليلٍ وسَبَبٍ حَصَل له به غلبة ظن، فأشبه البينةَ إذا ما أخبره ثقة عن مشاهدة. وبهذا قال جمع من أئمة الشافعية أصحاب الأوجُه، وهم: الإمام أبو العباس بن سُريج البغدادي [ت306هـ]، والإمام أبو بكر القفال الشاشي [ت365هـ]، والقاضي أبو الطيب الطبري [ت450هـ]. انظر: "المجموع" (6/ 289-290، ط. المنيرية)، و"روضة الطالبين" (2/ 211، ط. دار الكتب العلمية).
ونص الإمام المجتهد قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي [ت756هـ] -وقد أقر له علماء عصره بالوصول إلى رتبة الاجتهاد- على أن الشهادة بالرؤية إذا خالفت الحساب القطعي رُدَّت واعتُبِر الحساب؛ ذكر ذلك في رسالته "العلم المنشور في إثبات الشهور"، وقال في "فتاويه" (1/ 209، ط. دار المعارف): [وها هنا صورة أخرى: وهو أن يدل الحساب على عدم إمكان رؤيته، ويُدرَك ذلك بمقدمات قطعية، ويكون في غاية القرب من الشمس، ففي هذه الحالة لا يمكن فرض رؤيتنا له حسًّا؛ لأنه يستحيل، فلو أخبَرَنَا به مخبِرٌ واحدٌ أو أكثر ممن يحتمل خبره الكذب أو الغلط فالذي يتجه قبول هذا الخبر وحمله على الكذب أو الغلط.
ولو شهد به شاهدان لم تقبل شهادتهما؛ لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع، فضلًا عن أن يُقدَّم عليه.
والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنًا حسًّا وعقلًا وشرعًا، فإذا فرض دلالة الحساب قطعًا على عدم الإمكان استحال القبول شرعًا؛ لاستحالة المشهود به، والشرع لا يأتي بالمستحيلات، ولم يأت لنا نصٌّ من الشرع أن كل شاهدين تقبل شهادتهما سواء كان المشهود به صحيحًا أو باطلًا، ولا يترتب وجوب الصوم وأحكام الشهر على مجرد الخَبَر أو الشهادة حتى إنا نقول: العمدة قول الشارع: صوموا إذا أخبركم مخبر فإنه لو ورد ذلك قبلناه على الرأس والعين، لكن ذلك لم يأت قط في الشرع، بل وجب علينا التبيُّن في قبول الخبر حتى نعلم حقيقته أولًا.
ولا شك أن بعض مَن يشهد بالهلال قد لا يراه ويشتبه عليه، أو يرى ما يظنه هلالًا وليس بهلال، أو تريه عينُه ما لم يرَ، أو يؤدِّي الشهادة بعد أيام ويحصل الغلط في الليلة التي رأى فيها، أو يكون جهله عظيمًا يحمله على أن يعتقد في حمله الناس على الصيام أجرًا، أو يكون ممن يَقصِد إثباتَ عدالته؛ فيتخذ ذلك وسيلة إلى أن يُزكَّى ويصير مقبولًا عند الحكام، وكل هذا رأيناه وسمعناه. وعلى الحاكم إذا جرب مثل ذلك وعرَف مِن نفسه أو بخبر مَن يثق به أن دلالة الحساب على عدم إمكان الرؤية ألا يقبل هذه الشهادة ولا يثبت بها ولا يحكم بها، ويستصحب الأصل في بقاء الشهر فإنه دليل شرعي محقق حتى يتحقق خلافه] اهـ.
وقال الإمام المجتهد أبو الفتح بن دقيق العيد في "شرح العمدة" (2/ 8): [والذي أقول به: إن الحساب لا يجوز أن يُعتَمَد عليه في الصوم؛ لمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدُّم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو يومين؛ فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يُرَى لولا وجود المانع -كالغيم مثلًا- فهذا يقتضي الوجوب؛ لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية بشرط من اللزوم؛ لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بإكمال العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم وإن لم يَرَ الهلال، ولا أخبره من رآه] اهـ.
ونقل العلامة القليوبي في "حاشيته" على "شرح المحلي على المنهاج" (2/ 63) عن العلامة ابن قاسم العبّادي [ت994هـ] قوله: [إذا دلَّ الحساب القطعيّ على عدم رؤية الهلال لم يُقبَل قولُ العدول برؤيته، وتُرَدُّ شهادتُهم، -ثم قال القليوبي:- وهو ظاهرٌ جليٌّ، ولا يجوز الصوم حينئذٍ، ومخالفةُ ذلك معاندةٌ ومكابَرَةٌ] اهـ.
وهو ما نص عليه أيضًا الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي الأندلسي [ت638هـ]؛ حيث قال في "الفتوحات المكية" (1/ 606، ط. الميمنية): [اختلف العلماء إذا غُمَّ الهلال، فقال الأكثرون: تكمل العدة ثلاثين، فإن كان الذي غُمَّ هلالَ أولِ الشهر عد الشهر الذي قبله ثلاثين، وكان أول رمضان الحادي والثلاثين، وإن كان الذي غم هلال آخر الشهر -أعني شهر رمضان- صام الناس ثلاثين يومًا، ومن قائل: إن كان المغمى هلال أول الشهر صيم اليوم الثاني وهو يوم الشك، ومن قائل في ذلك: يرجع إلى الحساب بتسيير القمر والشمس، وهو مذهب ابن الشِّخِّير، وبه أقول] اهـ.
وقد نصر مشروعيةَ الأخذِ بالحساب الفلكي في إثبات الأهلة غيرُ واحد مِن أعيان العلماء المتأخرين: منهم العلامة شهاب الدين المرجاني التتري القَزَاني [ت1889م] في كتابه "ناظورة الحق في فرضية العشاء وإن لم يغب الشفق"؛ حيث قال فيه (ص: 44-45، ط. قزان سنة 1870م): [والحسابيات كلها أمور قطعية برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها،... وأهل الشرع من الفقهاء وغيرهم يرجعون في كل حادثة إلى أهل الخبرة بها وذوي البصارة في حالها، فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث، وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان وغير ذلك، فما الذي يمنع من بناء إكمال شعبان وغيره من الأشهر عليه مع كونه قطعيًّا وموافقًا إخبار الشارع به] اهـ.
ومنهم الشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي [ت1914م] كما يستفاد من مقدمته لكتاب "العلم المنشور" للإمام التقي السبكي.
ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا [ت1935م]؛ حيث قال في "تفسير المنار" (2/ 151، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب): [والحساب المعروف في عصرنا هذا يفيد العلم القطعي، ويمكن لأئمة المسلمين وأمرائهم الذين ثبت ذلك عندهم أن يُصدروا حكمًا بالعمل به؛ فيصير حجة على الجمهور] اهـ.
ومنهم شيخ علماء عصره مفتي الديار المصرية الأسبق العلامة الإمام المحقق الشيخ محمد بخيت المطيعي [ت1936م] في كتابه "إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة"، ومما قاله فيه (ص: 256-257، ط. مطبعة كردستان العلمية): [وما زال الناس في سائر الأمصار والأعصار يعتمدون في الأوقات على الحساب في الرمل والماء ونحوهما، وهل ذلك إلا كالتقدير بالأدوار، بل أكثر تحريرًا، وقد يضطر في معرفة ابتدائها إلى رؤية كوكب ونحوه فيبني عليه، ولا يعرف إلا بعلم وحساب] اهـ.
ومنهم الشيخ العلامة طنطاوي جوهري المُلَقَّب بحكيم الإسلام [ت1940م] في كتابه "الهلال"، ومما جاء فيه قوله (ص: 30): الحساب مستحسن مطلوب ليكون حصنًا يقي من غلط الحِسِّ، ومن تعمد الكذب، ومن التنطع بالشهادة قُربى وغير ذلك. اهـ.
ومنهم الإمام الأكبر شيخ الإسلام الشيخ محمد مصطفى المراغي [ت1945م]، قال الشيخ أحمد شاكر في رسالته "أوائل الشهور" (ص: 15): [كان للأستاذ الأكبر الشيخ المراغي منذ أكثر من عشر سنين حين كان رئيس المحكمة العليا الشرعية: رأيٌ في رد شهادة الشهود إذا كان الحساب يقطع بعدم إمكان الرؤية] اهـ. وكذلك شيخ الإسلام عبد الرحمن تاج رحمه الله تعالى.
ومنهم الشيخ أحمد محمد شاكر [ت1958م] وألَّف في ذلك رسالةً مستقلةً بعنوان: "أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعًا إثباتها بالحساب الفلكي؟"، وقال فيها (ص: 14): [وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده لزوال علة منعه، وجب أيضًا الرجوع إلى الحساب الحقيقي للأهلة، واطِّراح إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فيكون أولُ الشهر الحقيقي هو الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس، ولو بلحظة واحدة...
ثم قال في (ص: 15) بعد أن نقل رأي الشيخ المراغي السابق: وكان والدي وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه، ولكني أصرح الآن بأنه كان على صواب، وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال، إلا لمن استعصى عليه العلم بها] اهـ.
ومنهم الإمام الحافظ السيد أحمد بن الصِّدِّيق الغُماري الحَسَني [ت1960م] في كتابه "توجيه الأنظار لتوحيد المسلمين في الصوم والإفطار".
ومنهم العلامة الفقيه الشيخ مصطفى بن أحمد الزرقا الحلبي [ت1999م] في بحثه: "لماذا الاختلاف حول الحساب الفلكي؟"، ومما جاء فيه قوله: [الأمر باعتماد رؤية الهلال ليس لأن رؤيته هي في ذاتها عبادة، أو أن فيها معنى التعبد، بل لأنها هي الوسيلة الممكنة الميسورة إذ ذاك لمعرفة بدء الشهر القمري ونهايته لمن يكونون كذلك، أي: أميين لا علم لهم بالكتابة والحساب الفلكي، ولازم هذا المفاد من مفهوم النص الشرعي نفسه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقومه العرب إذ ذاك لو كانوا من أهل العلم بالكتاب والحساب بحيث يستطيعون أن يرصدوا الأجرام الفلكية، ويضبطوا بالكتاب والحساب دوراتها المنتظمة التي نظمتها قدرة الله العليم القدير بصورة لا تختل ولا تختلف، حتى يعرفوا مسبقًا بالحساب متى يهل بالهلال الجديد؛ فينتهي الشهر السابق ويبدأ اللاحق، لأمكنهم اعتماد الحساب الفلكي، وكذا كل من يصل لديهم هذا العلم من الدقة والانضباط إلى الدرجة التي يوثق بها ويطمئن إلى صحتها، هذا حينئذ -ولا شك- أوثقُ وأضبطُ في إثبات الهلال من الاعتماد على شاهدين ليسا معصومين من الوهم وخداع البصر، ولا من الكذب لغرض أو مصلحة شخصية مستورة، مهما تحرينا للتحقق من عدالتهما الظاهرة التي توحي بصدقهما، وكذلك هو -أي طريق الحساب الفلكي- أوثقُ وأضبطُ من الاعتماد على شاهد واحد عندما يكون الجو غيرَ صحوٍ والرؤيةُ عسيرةً، كما عليه بعض المذاهب المعتبرة في هذا الحال] اهـ.

الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات الحساب الفلكي في رؤية الهلال


دلت على أخذ الحساب الفلكي في الاعتبار مجموعةٌ من الأدلة، منها ما هو من القرآن الكريم، ومنها ما هو من السنة المطهرة، ومنها ما هو من النظر الصحيح.
أما من القرآن الكريم: فقوله تعالى: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِي أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ ٱلۡهُدَى وَٱلۡفُرۡقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلْيَصُمۡهُ﴾ [البقرة: 185]، وشهود الشهر إما أن يكون بمعنى الحضور فيه وعدم السفر، وإما أن يكون بمعنى العلم بوجوده، وهذا الثاني هو الظاهر من الآية؛ فإن الشهود بمعنى العلم هو سببُ وجوب الصوم، وقوله تعالى: ﴿فَلْيَصُمۡهُ﴾ جاء مرتبًا عليه بالفاء خبرًا لـ مَن أو جوابًا للشرط، فيكون الظاهر من الآية: أن كل مَن علم منكم بوجود الشهر المعهود -وهو شهر رمضان- وجب عليه صومُه، ووجود الشهر شرعًا بوجود هلاله بعد غروب الشمس بحيث يُرى للناظر، فمن علم بوجود هلال الشهر بعد الغروب بأي طريق من طرق العلم الشامل لغلبة الظن، سواء كان ذلك العلم برؤية نفسه أو بإخبار من يوثق برؤيته أو بأمر القاضي بذلك وعلمه بأمره أو بحساب فلكي دل على وجوده وإمكان رؤيته بلا عسر لولا المانع، وجب عليه الصوم، وتعليق الصوم والإفطار بالرؤية لا ينافي ذلك، والرؤية لا يلزم أن تكون بالفعل، بل يكفي في الرؤية الفاشية أن يقوم الدليل على أنه يرى لولا المانع. انظر: "إرشاد أهل الملة" للعلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي (ص: 259-261).
وأما من السنة المطهرة: فما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ»، فهذا الحديث دالٌّ على أصل مشروعية الأخذ بالحساب الفلكي، وذلك من وجوه:
أولًا: أن الحديث قد علق الصيام والفطر بالرؤية، والمتبادر منها الرؤية البصرية، والتعليق بالرؤية البصرية إنما جاء رحمة بالمكلفين وتيسيرًا عليهم، خطابًا لهم بالأمر الظاهر الذي يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف الحساب فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس، كما أن الرؤية البصرية هي أسهل الحدود؛ لكونها ممكنةً لكل أحد، أما الآلات الرصدية ونحوها فلا تتيسر لكل أحد، مع أن الاثنين مِن قَبيل المُعَرِّفات والعلامات التي يُستَدَل بها على ميقات العبادة، فالشارع وإن لم يجعل مدار العلم بتلك الأوقات على علم الحساب إلا أنه لم يمنع الاستدلال به على تلك الأوقات لمَن يَعْرِفُها؛ لأنه مُعَرِّف أيضًا.
ولذلك فقد ذكر الإمام أبو العباس بن سُرَيج -وكان يُلَقَّب بالشافعي الصغير- أن في الحديث نوعين من الخطاب: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ» خطاب لعامة القوم الذين لم يروا الهلال ولا يحسنون تقدير المنازل والحساب الفلكي، وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَاقْدِرُوا لَهُ» فخطاب لمن خصه الله بعلم الحساب الفلكي والعارفين بعلم الهيئة لحثهم على حساب موقعه.
قال العلامة أبو منصور الأزهري في كتابه "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص: 113-114، ط. دار الطلائع): [سمعت أبا الحسن السنجاني يقول: سمعت أبا العباس بن سريج يقول في توجيه هذين الخبرين: إن اختلاف الخطابين مِن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان على قدر أفهام المُخاطَبِين: فأمَرَ مَن لا يُحسِنُ تقديرَ منازل القمر بإكمال عدد الشهر الذي هو فيه؛ حتى يكون دخوله في الشهر الآخر بيقين، وأمَر مَن يُحسِنُ تقديره مِن الحُسَّاب الذين لا يخطئون فيما يحسبون -وذلك في النادر مِن الناس- بأن يحسبوا ويقدروا، فإن استبان لهم كمالُ عدد الشهر: تسعًا وعشرين كان، أو ثلاثين؛ دخلوا فيما بعده باليقين الذي بان لهم.
وقال أبو العباس: ومما يُشاكِل هذا: أن عوامَّ الناس أُجيز لهم تقليدُ أهل العلم فيما يستفتونهم فيه، وأُمِر أهلُ العلم ومَن له آلةُ الاجتهاد بأن يحتاط لنفسه ولا يقلد إلا الكتاب والسنة، وكلا القولين له مخرج، والله أعلم] اهـ.
ثانيًا: أن الحديث قد ذكر أن الرؤية سبب للصوم والفطر، والحُكم إذا أضيف إلى سببٍ وعلمت فيه عِلَّة السبب، ثم وجدت في وصف آخر، جاز أن يُنصَبَ سببًا، وهي المسألة المعروفة في علم أصول الفقه بمسألة "القياس في الأسباب"، والذي اختاره جمع من الأصوليين منهم حجة الإسلام الإمام الغزالي [ت505هـ] والإمام إلكيا الهراسي [ت504هـ] هو الجواز.
وقال الإمام الزركشي الشافعي في "البحر المحيط" (7/ 85، ط. دار الكتبي): [المنقول عن أصحابنا -يعني الشافعية- جوازه] اهـ.
وعليه: فإنه يُلحق بالرؤية البصرية غيرُها من الأسباب التي تحقق مقصود الرؤية من إثبات دخول الشهر أو خروجه، كالحساب الفلكي.
ثالثًا: أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَاقْدِرُوا لَهُ» محمول على التقدير بحساب منازل القمر؛ لأن هذا هو ما عبر به القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ﴾ [يس: 39]، وقوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَاءً وَٱلۡقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَ﴾ [يونس: 5]، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يشير بقوله هذا إلى ما قَدَّره الله من المنازل والسير فيها.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (9/ 385، ط. مؤسسة الرسالة): [تأملنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَاقْدِرُوا لَهُ» ما مراده صلى الله عليه وآله وسلم به، فكان أحسن ما سمعناه في ذلك -والله أعلم- أن الله عز وجل قال في كتابه: ﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَاهُ﴾ فأخبر عز وجل أنه قَدَّره منازل يجري عليها، فكان ذلك أنه -عز وجل- أجراه على أن جعل ما يجري في كل ليلة حتى يسقط منزلة واحدة، وهي ستة أسباع ساعة؛ لأن منازل الليل أربع عشرة منزلة، وساعاته أربع عشرة ساعة، فمدى كل منزلة ستة أسباع ساعة، فيجري كذلك إلى ثمان وعشرين ليلة يستسر، فإن كان الشهر ثلاثين استسر ليلتين، وإن كان تسعًا وعشرين استسر ليلة واحدة، فكان المأمور به في حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا إذا أغمي علينا ثم طلع، نظرنا إلى سقوطه، فإن كان لمنزلة واحدة علمنا أنها لليلته، وإن كان لمنزلتين علمنا أنه لليلتين، وعقلنا بذلك أن بينهما يومًا، وأن علينا قضاء ذلك اليوم إن كان من رمضان] اهـ.
ومن الأدلة أيضًا: ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهلال؛ فقال: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ»، وفيه أيضًا تعليق الحكم على الرؤية دون تعرُّض لقضية التقدير عند الإغمام، ورأى في اللغة نوعان: رأى البصرية، ورأى العلمية الاعتقادية، فتقول: رأيت العصفور على الشجرة، أي: أبصرته، وتقول: رأيت رأي فلان، أي: علمته واعتقدته. وهي هنا في الحديث صالحة لأن تحمل على المعنيين، وحمل اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه معًا جائزٌ عند طائفة من الأصوليين منهم الإمام الشافعي وجمهور أصحابه، كما في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَد مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدا طَيِّبا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُ﴾ [المائدة: 6]، فحُمِلَ اللَّمس على الجَسّ باليد حقيقة وعلى الجماع مجازًا.
فكأن الحديث الشريف يطلب تحقق مُطلَق العلم، ويعززه أنه لو كان أهل بلد ما عميانًا ما عدا قلائل، وهؤلاء المبصرون يرون الهلال أو يعرفون الأوقات برؤية علاماتها، ثم يخبرون باقي أهل البلد من العميان، فإذا كانوا عدولًا وجب قبول خبرهم، فكذلك الخواص يعرفون العلامات بالحساب الفلكي ثم يخبرون من لا يعرفه؛ فيقبل خبرهم إذا تحققت عدالتهم.
وأما النظر: فقياس إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب على إثبات أوقات الصلوات بالحساب؛ لأنه لا يوجد فارق مؤثر بينهما، والصلاة الآن أصبحت في جميع بقاع الأرض تعتمد على الحساب، ولم ينكره أحد، ولم يقل أحد إن هذا مطرح، ولا بد من رؤية الشمس البصرية ليرى علامات دخول أوقات الصلاة، فكذلك يجوز استعمال الحساب الفلكي في معرفة أوائل الشهور ونهاياتها.
أما الاستدلال بما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» -يعني: مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين- على عدم مشروعية استخدام الحساب الفلكي في إثبات الأهلة، فغير مُسَلَّم؛ فالحديث ليس فيه نهيٌ عن الكتابة والحساب ولا ذمهما أو تنقيصهما ولا إشارة إلى إبطال علم الفلك، إنما هو يصف من كانوا في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين حيث كانت هذه هي صفتهم الغالبة، وليس معناه أن صفة الأمية صفة متعلقة بالأمة في جميع الأعصار والأمصار.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (4/ 127، ط. دار المعرفة): [قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ» والمراد أهل الإسلام الذين بحضرته عند تلك المقالة، وهو محمول على أكثرهم أو المراد نفسه صلى الله عليه وآله وسلم،... وقوله: «لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ» تفسير لكونهم كذلك، وقيل للعرب أميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة؛ قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].
ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب؛ لأن الكتابة كانت فيهم قليلةً نادرةً، والمراد بالحساب هنا: حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية؛ لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير، واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم مَن يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلًا] اهـ.
وهذا يعني أن الأمر باعتماد رؤية الهلال ليس لأن في ذات رؤيته معنى التعبد، بل لأنها هي الوسيلة الممكنة الميسورة لمعرفة بدء الشهر القمري ونهايته لمن يكونون أميين لا علم لهم بالكتابة والحساب الفلكي.
ويلزم من هذا أنه لو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقومه العرب إذ ذاك من أهل العلم بالكتاب والحساب؛ بحيث يستطيعون أن يرصدوا الأجرام الفلكية، ويضبطوا بالكتاب والحساب دوراتها المنتظمة التي نظمتها قدرة الله العليم القدير بصورة لا تختل ولا تختلف -لأمكنهم اعتماد الحساب الفلكي، وكذا كل من يصل لديهم هذا العلم من الدقة والانضباط إلى الدرجة التي يوثق بها ويطمئن إلى صحتها؛ لأن الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللًا بعلة منصوصة، وهي أن الأمة أمية لا تكتب ولا تحسب، و"العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا"، فإذا خرجت الأمة عن أميتها وصارت تكتب وتحسب يعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم وأمكن الناس خاصتهم وعامتهم أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتَهم بالرؤية أو أقوى -فلهم حينئذ أن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب الفلكي ولا حرج، والحساب الفلكي حينئذ لا شك أنه أوثق وأضبط في إثبات الهلال من الاعتماد على شاهدين ليسا معصومين من الوهم وخداع البصر، ولا من الكذب لغرض أو مصلحة شخصية مستورة، مهما تحرينا للتحقق من عدالتهما الظاهرة التي توحي بصدقهما.

الرد على من يزعم بطلان اعتماد الحساب الفلكي في رؤية الهلال


قول بعض العلماء إن اعتبار الحساب مذهب باطل؛ لأنه قائم على علم النجوم، والشرع قد حذر من مثل هذا فيما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»، وما رواه الطبراني في "معجمه الكبير" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا».
وكذلك فإن علم النجوم حَدس وتخمين، وليس فيه قطعٌ ولا ظنٌّ غالب، فلا يُسَلَّم؛ لأمور:
أولًا: أن هذا الكلام خلط بين العرافة والتنجيم والكهانة من جهة، وبين حساب النجوم الذي هو علم الفلك من جهة أخرى، وعلم الفلك حتى لو كان قديمًا قد اختلط بالعرافة والكهانة عند المشتغلين به، فإنه الآن منفصل عنهما تمامًا، وأصبح أمره متعلقًا بمراصد حديثة، وأجهزة عملاقة تكتشف حركات الأجرام من مسافات تقدر بملايين السنين الضوئية، ومبنيًّا على معادلات رياضية وقوانين كونية وحسابات دقيقة متيقنة هي التي تحدد تلك الحركات بالثانية أو أجزائها، وتخلص علم الفلك الآن من شبهة التنجيم التي توحي بالتكهن بالغيب، وأصبح علم الفلك مبنيًّا على علوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء في أعلى مستوياتها الجامعية وما بعدها، بل ودخل في مقرراته الدراسية والبحثية علوم الأحياء -البيولوجي- بعد أن تفرع منه علم البحث عن الحضارات الذكية الذي يهتم بصور الحياة خارج نطاق المجموعة الشمسية.
ثانيًا: أن علم النجوم القديم ليس مذمومًا بإطلاق؛ قال العلامة المرغيناني الحنفي صاحب "الهداية" في "مختارات النوازل": [علم النجوم في نفسه حسنٌ غير مذموم؛ إذ هو قسمان: حسابي، وإنه حق، وقد نطق به الكتاب؛ قال الله تعالى: ﴿ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَان﴾ [الرحمن: 5] أي: سيرهما بحساب، واستدلالي بسير النجوم وحركة الأفلاك على الحوادث بقضاء الله تعالى وقدره، وهو جائز، كاستدلال الطبيب بالنبض من الصحة والمرض، ولو لم يعتقد بقضاء الله تعالى أو ادعى الغيب بنفسه يكفر] اهـ. نقلًا عن "حاشية ابن عابدين" (1/ 43-44، ط. دار الكتب العلمية).
ثالثًا: أن المذموم من علم النجوم القديم إنما ذُمَّ لأسباب وعلل ليست موجودةً في علم الفلك الحديث؛ قال حجة الإسلام الإمام الغزالي في "الإحياء"
(1/ 29-30، ط. دار المعرفة): [وإنما زجر عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مضرٌّ بأكثر الخلق؛ فإنه إذا ألقى إليهم أن هذه الآثار تحدث عقيب سير الكواكب وقع في نفوسهم أن الكواكب هي المؤثرة وأنها الآلهة المدبرة؛ لأنها جواهر شريفة سماوية، ويعظم وقعها في القلوب، فيبقى القلب ملتفتًا إليها ويرى الخير والشر محذورًا أو مرجوًّا من جهتها.
وثانيها: أن أحكام النجوم تخمين محض ليس يدرك في حق آحاد الأشخاص لا يقينًا ولا ظنًّا، فالحكم به حكم بجهل، فيكون ذمه على هذا من حيث إنه جهل لا من حيث إنه علم، فلقد كان ذلك معجزةً لإدريس عليه السلام فيما يحكى، وقد اندرس وانمحى ذلك العلم وانمحق، وما يتفق من إصابة المُنَجِّم على ندور فهو اتفاق؛ لأنه قد يطلع على بعض الأسباب ولا يحصل المسبب عقيبها إلا بعد شروط كثيرة ليس في قدرة البشر معرفة حقائقها، فإن اتفق أنْ قَدَّرَ اللهُ تعالى بقيةَ الأسباب وقعت الإصابة، وإن لم يقدر أخطأ، ويكون ذلك كتخمين الإنسان في أن السماء تمطر اليوم مهما رأى الغيم يجتمع وينبعث من الجبال، فيتحرك ظنه بذلك، وربما يحمى النهار بالشمس ويذهب الغيم، وربما يكون بخلافه، ومجرد الغيم ليس كافيًا في مجيء المطر، وبقية الأسباب لا تدرى، ولهذه العلة يمنع القول عن النجوم أيضًا.
وثالثها: أنه لا فائدة فيه، فأقل أحواله أنه خوض في فضول لا يغني، وتضييع العمر الذي هو أنفس بضاعة الإنسان في غير فائدة، وذلك غاية الخسران] اهـ بتصرف.
وليس شيءٌ من ذلك بمتحقق في علم الفلك الحديث، فلا هو سبب لاعتقاد الناس في تأثير الكواكب الذاتي في الكون واعتقاد الألوهية فيها، بل إنه من أسباب معرفة الله ومعرفة النظام المستدَل به على وجود الله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰت لِّقَوۡم يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 6]، ولا هو مبنيٌّ على ظنيات، بل هو قطعي لابتنائه على قوانين قطعية، وقد أقيمت بناءً عليه، وعلى قوانينه المحطاتُ الفضائية الثابتة في الفضاء حول الأرض، وأطلقت الأقمار الصناعية، ونظمت الرحلات الفضائية العلمية بمكوكات الفضاء، ومنها ما يعمل بالقيادة الإلكترونية الآلية، حيث تُرسل المسابر والمعدات الفضائية إلى أماكن يتعذر وصول البشر إليها لأسباب طبيعية، ويتم تهيئتها على أداء مهمة محددة في وقت محدد ومكان محدد، ولا هو معدوم الفائدة، بل إنه من فروض الكفايات التي تأثم الأمة جميعًا لو عُدم فيها مَن يعلمه، فهو متوقفة عليه جملةٌ من مصالح الدين والدنيا لا تتم إلا بمعرفته ودراسته.
ونحن نرى أن مسألة الاستئناس بالحسابات الفلكية؛ بمعنى إنكار دعوى الرؤية البصرية إذا قطع الحساب الفلكي بخطئها؛ أو بمعنى آخر: الأخذ بها في النفي دون الإثبات، لا يصح أن تكون محلًّا للخلاف، فقد تقرَّر شرعًا أن القطعي مقدَّم على الظني، أي أن الحساب القطعي لا يمكن أن يعارض الرؤية الصحيحة؛ ولذلك قال الإمام المجتهد التقي السبكي في "الفتاوي" (1/ 209-217): [لا نقول: الشرع ألغى قول الحساب مطلقًا، والفقهاء قالوا: لا يعتمد، فإن ذلك إنما قالوه في عكس هذا، وهذه المسألة المتقدمة التي حكينا فيها الخلاف، أما هذه المسألة فلا، ولم أجد في هذه نقلًا، ولا وجهَ فيها للاحتمال غير ما ذكرته... ولا يُعتقد أن الشرع أبطل العمل بما يقوله الحساب مطلقًا، فلم يأتِ ذلك، وكيف والحساب معمول به في الفرائض وغيرها، وقد ذكر في الحديث الكتابة والحساب، وليست الكتابة منهيًّا عنها، فكذلك الحساب، وإنما المراد ضبط الحكم الشرعي في الشهر بطريقين ظاهرين مكشوفين: رؤية الهلال أو تمام ثلاثين، وأن الشهر تارة تسع وعشرون وتارة ثلاثون، وليست مدة زمانية مضبوطة بحساب كما يقوله أهل الهيئة، ولا يعتقد الفقيه أن هذه المسألة هي التي قال الفقهاء في كتاب الصيام: إن الصحيح عدم العمل بالحساب؛ لأن ذلك فيما إذا دل الحساب على إنكار الرؤية، وهذا عكسه، ولا شك أن من قال هناك بجواز الصوم أو وجوبه يقول هنا بالمنع بطريق الأولى، ومن قال هناك بالمنع فها هنا لم يقل شيئًا، والذي اقتضاه نظرنا المنع، فالمنع هنا مقطوع به، ولم نجد هذه المسألة منقولةً، لَكِنَّا تفقهنا فيها، وهي عندنا من محال القطع مترقية عن مرتبة الظنون، والله أعلم...
ثم قال: قد يحصل لبعض الأغمار والجهال توقفٌ فيما قلناه، ويستنكر الرجوع إلى الحساب جملةً وتفصيلًا، ويجمد على أن كل ما شهد به شاهدان يثبت، ومَن كان كذلك لا خطاب معه، ونحن إنما نتكلم مع من له أدنى تبصر، والجاهل لا كلام معه] اهـ.
ونحوه أيضًا ما نقله العلامة القليوبي في "حاشيته على شرح المحلي على المنهاج" (2/ 63) عن العلامة ابن قاسم العبَّادي [ت994هـ] من قوله: [إذا دلَّ الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال لم يُقبَل قولُ العدول برؤيته، وتُرَدُّ شهادتُهم.
ثم قال القليوبي: وهو ظاهرٌ جليٌّ، ولا يجوز الصّوم حينئذٍ، ومخالفةُ ذلك معاندةٌ ومكابَرَةٌ] اهـ.
والحق أنه لا يوجد تعارض حقيقيٌّ ما بين الشهادة في حدِّ ذاتها وبين الحساب الفلكي في نفس الأمر، وإنما تُرَدُّ الشهادة عند تعارضها مع الحساب الفلكي حتى وإن لم يكن الحساب قطعيًّا بل كان قريبًا من القطعي؛ لأنه ورد على الشهادة ما يقدح فيها، وهو الظن الغالب بعدم ضبط الشاهد لما يرى، فإن مخالفته للحساب القطعي قرينةٌ على عدم إحاطته الكافية بطبيعة ما يشهد عليه، وفي ذلك يقول الإمام العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي في "إرشاد أهل الملة" (ص: 290، ط. مطبعة كردستان العلمية): [إذا رُدَّت الشهادة عندما يكون التفرد مظنة الغلط أو الكذب، وذلك عندما يرى الهلالَ جمعٌ قليل دون أضعافهم -وهذا منصوصٌ عليه في مذهب السادة الحنفية والمالكية كما سيأتي- فكيف لا ترد إذا وجد دليل قاطع أو قريب من القاطع على عدم إمكان الرؤية! لا شك أن عدم قبول الشهادة هنا أولى؛ لأنه إذا رأى القليل ولم يره أضعافهم فعدم رؤية أضعافهم يوجب غلبةَ الظن بغلط القليل أو كذبه في دعواه الرؤية، وأما هنا فالدليل قاطعٌ أو قريب منه على ذلك، كيف وقد جعلوا من شروط إفادة الخبر المتواتر العلم للسامع أن لا يكون السامع معتقدًا لنقيض ما يقتضيه الخبر إما لشبهةٍ أو تقليدٍ أو اعتقاد، فإذا كان هذا هو حال الخبر المتواتر فكيف بغيره؟ وحينئذٍ إذا قبل القاضي شهادة مَن شهد عنده برؤية الهلال مع دلالة الحساب القطعي أو القريب منه على عدم إمكان الرؤية كان ذلك على خلاف ما يعتقده، ولذلك قال السبكي: إنه أخرق، وليس هذا من قبيل معارضة الحساب للشهادة حتى يقال: يُعمَل بالشهادة دون الحساب، بل إن ذلك من قبيل وجود دليلٍ عند القاضي المشهود عنده اعتقد بموجبه خطأ الشاهد أو كذبه؛ فإن حساب الحاسب العدل الراسخ في الفن إذا دلَّ على عدم إمكان الرؤية أوجب غلبة الظن بغلط الشاهد أو كذبِهِ بلا شبهة، فكيف يستطيع القاضي أن يقبل مع هذا شهادة هذا الشاهد؟] اهـ.
وردُّ الشهادة لمَظِنة الغلط قد نصَّ عليه الحنفية والمالكية أيًّا كان عدد الشهود؛ قال الإمام الحافظ العلامة محمد بن طولون الحنفي في بعض رسائله: ولم يريدوا بالتفرد تفرد الواحد، وإلا لقُبل الاثنان، وهو منتفٍ، بل المراد -كما في "الفتح" وغيره- بالتفرد مَن لم يقع العلم بخبرهم مِن بين أضعافهم من الخلائق. اهـ.
وفي شرح هذا الكلام نورِدُ قول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في "المبسوط" (3/ 140، ط. دار المعرفة): [فأما إذا لم يكن بالسماء علةٌ فلا تقبل شهادة الواحد والمثنى حتى يكون أمرًا مشهورًا ظاهرًا في هلال رمضان، وهكذا في هلال الفطر في رواية هذا الكتاب، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال: تقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين بمنزلة حقوق العباد، والأصح ما ذُكر هنا، فإن في حقوق العباد إنما تُقبل شهادةُ رجلين إذا لم يكن هناك ظاهرٌ يكذبهما، وهنا الظاهر يكذبهما في هلال رمضان وفي هلال شوال جميعًا؛ لأنهما أسوة سائر الناس في الموقف والمنظر وحِدَّة البصر وموضع القمر، فلا تقبل فيه الشهادة إلا أن يكون أمرًا مشهورًا ظاهرًا] اهـ.
والشهادة التي تعارض الحساب الفلكي الآن هي شهادةٌ على أمرٍ مستحيلٍ حِسًّا؛ لأن الحساب الفلكي القطعي أصبح أمرًا حسيًّا -كما ذكره في "الكواكب الدرية"، ونقله عنه الشيخ محمد بخيت المطيعي في "إرشاد أهل الملة"- مبنيًّا ومؤسسًا على آلاتٍ رصدية محسوسة يتوصل بها إلى معرفة مقادير حركات الكواكب وغيرها، وأبعاد بعض الكواكب عن بعض، ومحاذاة بعضها لبعض، وتعين مواضعها بالحس والمشاهدة، وهذا ما يشير إليه كلام العلامة الشهاب ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (3/ 382-383، ط. دار إحياء التراث العربي): [الذي يتجه منه أن الحساب إن اتفق أهله على أن مقدماته قطعية، وكان المخبرون منهم بذلك عدد التواتر رُدَّت الشهادة، وإلا فلا، وهذا أولى من إطلاق السبكي إلغاء الشهادة إذا دلَّ الحساب القطعي على استحالة الرؤية وإطلاق غيره قبولها وأطال كل لما قاله بما في بعضه نظر للمتأمل] اهـ.
والحق أن العلامة التقي السبكي قال بردِّ الشهادة لاعتبارٍ آخر غير الاعتبار الذي من أجله ردَّ العلامةُ الشهاب ابن حجر الشهادة، فالسبكي ردَّها من قبيل وجود دليلٍ عند القاضي المشهود عنده، اعتقد بموجبه خطأ الشاهد أو كذبه -بناءً على أنه لا يفرِّق بين الحساب القطعي والقريب منه-، فصار هذا قدْحًا في شهادة الشاهد، في حين ردَّ الشهاب ابن حجر الشهادةَ لاستحالة المشهود به؛ نظرًا لثبوت الحساب القاطع ثبوتًا متواترًا.
وأما قول العلامة ابن قاسم في "حاشيته على تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (3/ 383، ط. دار إحياء التراث العربي): [إن إخبار عدد التواتر إنما يفيد القطع إذا كان الإخبار عن محسوس؛ فيتوقف على حسية تلك المقدمات والكلام فيه] اهـ. فقد نظر فيه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي في "إرشاد أهل الملة" (ص: 291، 292) بقوله: [إن كان مراده الاعتراض بأن التواتر لا يمكن هنا لعدم حسية تلك المقدمات كما فهمه البعض من كلامه، ونقله ابن عابدين في رسالته "تنبيه الغافل والوسنان"، فليس بصحيح؛... فقد ظهر أن تلك المقدمات محسوسة، وإن كان مراده أن كلام ابن حجر مفروض في أن تلك المقدمات حسية، فيفيد الإخبار حينئذٍ عنها القطع، فهو صحيح، فيتعين حمله على ذلك، لكن قد علمت أنه لا يلزم في رد الشهادة أن يبلغ المخبرون عدد التواتر، بل يكفي أن يدل خبرهم على غلبة الظن التي تقرب من اليقين باستحالة الرؤية، فإنه بهذا المقدار تكون الشهادة مظنةَ الغلط أو الكذب فترد] اهـ.
وقد صرَّح علماء الحنفية بأن الشهادة ولو في حقوق العباد إذا قامت على مستحيلٍ عقلًا أو عادةً أو خالفت الظاهر لا تقبل، كما في الرواية تمامًا؛ قال العلامة السرخسي في "المبسوط" (3/ 64) يتكلم عن الشاهد: [هو مخبر بأمر ديني، وهو وجوبُ أداء الصوم على الناس، فوجب قبول خبره إذا لم يكذبه الظاهر كمن روى حديثًا] اهـ.
وإذا كان الإجماع قد انعقد على أن شهادة المرتاب به في شهادته غيرُ مقبولة، ولهم فروعٌ كثيرة تدل على ذلك، فإن الشهادة مع استحالة المشهود به عادةً أقوى في استحقاق الردِّ من الشهادة مع الريبة، فيكون القطعُ بردِّها من باب أولى، وهذا أوضح من أن يُنقَل عن أحد، نبَّه إلى ذلك العلامة محمد بخيت المطيعي في "إرشاد أهل الملة".
والإمكان ضد الاستحالة، وهو شرطٌ في قبول الشهادة، كما عدَّه الفقهاء شرطًا في الإقرار، يقول الإمام التقي السبكي رحمه الله في "العلم المنشور" (ص: 23): [ينظر القاضي في حال الشهود، بعد تحقق عدالتهم وتيقظهم وبراءتهم من الريبة والتهمة وسلامة حواسهم وحدة نظرهم، وسلامة الأفق ومحل الهلال مما يشوِّش الرؤية، ومعرفة منزلة الهلال التي يطلع فيها وما يقتضيه الحساب من إمكان رؤيته وعدمها، فإن المشهودَ به شرطُه الإمكان، وإذا كان يُشترط في الإقرار الإمكان، والمقرُّ مخبرٌ عن نفسه محترزٌ عليها، فما ظنك بالشهادة، فيكون هذا عند القاضي عتيدًا] اهـ.
والشهادة إنما كانت معتبرةً في الشرع -وإن كانت خبرًا يحتمل الصدق والكذب- لاحتفافها بالقرائن التي ترجح جانب الصدق على الكذب من عدالة الشهود، وموافقة شهادة كل منهما في المعنى لشهادة الآخر، وموافقة شهادتهم للدعوى، فإذا وقعت الشهادة بمستحيلٍ عقلًا أو عادةً، أو خالفت مشهورًا ظاهرًا فقد وُجد ما يرجح جانب الكذب على جانب الصدق أو يوجب القطع بالكذب فتُرَدُّ الشهادة حينئذ، ولقد جاء في "الولوالجية" من أنه متى تعارض مرجِّح الصدق -وهو العدالة في شهادة الواحد العدل- مع مرجِّح الرد -وهو مخالفتها للظاهر- يُقدَّم على الصحيح مرجِّحُ الردِّ على مُرَجِّح القبول، كما نقله العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، وأن المدار في ردِّ الشهادة هو على كونها مظنة الغلط أو الكذب بلا فرق بين الواحد والأكثر، وفي حال مخالفتها للحساب القاطع فإنها تكون في مظنة الكذب والغلط فتُرَدُّ من باب أولى.
وقد نص بعض الفقهاء على أهمية توفر عنصر العناية بأمر الهلال عند الشاهد، وجعلوا ذلك مهمًّا لدرجة أنْ قَبِلَ المالكية في قولٍ عندهم الشهادةَ من عدلين في وقت صحو السماء، بشرط أن يكونا ممن لهم عنايةٌ بأمر الهلال، مع أن الأصل عندهم عدم القبول إلا بالاستفاضة؛ لأن العناية بأمر الهلال تتضمن العلم بالحساب عادةً، وهذه قرينةٌ تُرجِّح القَبول. قال الإمام سحنون: ترد شهادة العدلين إذا ادعيا الرؤية والسماء مصحية في بلد كبير. اهـ. وإليه ذهب الحنفية أيضًا؛ لعدم المانع وتوافر الدواعي لرؤيته.
ولذلك اتفقت المؤتمرات الفقهية -كمؤتمر جدة وغيره- على الاستئناس بالحسابات الفلكية القطعية مع الاعتماد على الرؤية البصرية الصحيحة، وهذا يعني أن الحساب ينفي ولا يثبت، وأنه يُعَدُّ تهمةً للرائي الذي يدعي خلافه، وهذا ما قرره مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في مؤتمره الثالث المنعقد في الفترة من: (30 سبتمبر إلى 27 من أكتوبر سنة 1966م) بشأن تحديد أوائل الشهور القمرية: أن الرؤية هي الأصل في معرفة دخول أي شهر قمري كما يدل عليه الحديث الشريف، فالرؤية هي الأساس، لكن لا يعتمد عليها إذا تمكنت منها التُّهَم تَمَكُّنًا قويًّا، وأن ثبوت رؤية الهلال يكون بالتواتر والاستفاضة، كما يكون بخبر الواحد ذَكَرًا كان أو أنثى، إذا لم تتمكن التهمة في إخباره بسبب من الأسباب التي منها مخالفة الحساب الفلكي الصادر ممن يوثق به.
وعليه: فالحساب الفلكي يُؤخَذ به في النفي لا في الإثبات، أي أن الرؤية البصرية هي المعتمدة إلا إذا خالفت الحساب الفلكي المقطوع بدقته، فإذا خالفته لا تُعتَمَد، ولا تُعتَبر حينئذ شهادةُ مَن شَهِد برؤية الهلال لمخالفتها الحساب، وبهذا يتم الجمع بين الأصل وهو الرؤية البصرية المأمور بها كأصل للمسألة، وبين الحساب الفلكي المقطوع بدقته في عصرنا.

قضية اختلاف المطالع، وأثرها على ثبوت دخول الشهر

 أما عن القضية المتعلقة باختلاف المطالع، فإن العلماء قد اختلفوا في اعتباره من عدمه في خصوص ما يترتب على رؤية الهلال في إحدى البلدان من وجوب الصوم أو الفطر على غيرها ممن لم يشاهد فيها الهلال.كما سيأتي ذكره فيما بعد.
فذهب الحنفية -كما نص عليه الإمام النسفي في "كنز الدقائق" (1/ 321، مع شرح "تبيين الحقائق" للزيلعي ط. دار الكتاب الإسلامي)، والعلامة ابن عابدين في "تنبيه الغافل والوسنان على أحكام هلال رمضان" (ص:27، 28، ط. مطبعة معارف بدمشق)- إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع، بمعنى أنه إذا رأى الهلال أهل بلد ولم يره أهل بلد آخر وجب عليهم أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان.
وذهب المالكية إلى أن رؤية الهلال بجماعة مستفيضة في بلد يلزم غيرها من البلاد مطلقًا؛ قال سيدي خليل في "مختصره": [وعم إن نقل بهما عنهما] اهـ. أي: عَمَّ وجوب الصوم سائر البلاد القريبة والبعيدة إذا نقل بعدلين عن عدلين، أو الاستفاضة عن الاستفاضة، فإذا رؤي وثبت الهلال في مكان ما، فإن هذه الرؤية تعم جميع الأقطار. انظر: "شرح مختصر خليل" للعلامة الخرشي (2/ 236، ط. دار الفكر)، و"حاشية الدسوقي" (1/ 510، ط. دار إحياء الكتب العربية).
وعند الحنابلة أيضًا أنه لا عبرة باختلاف المطالع؛ قال العلامة ابن مفلح في "الفروع" (3/ 12، ط. عالم الكتب): [وإذا رأى الهلالَ أهلُ بلد لزم الناسَ كلهم الصومُ لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، وأما من لم يره: فإن كانت المطالع متفقةً؛ لزمهم الصوم أيضًا، وإن اختلفت المطالع فالصحيح من المذهب لزوم الصوم أيضًا] اهـ. وكذلك في "الإنصاف" للعلامة المرداوي (3/ 273، ط. دار إحياء التراث العربي).
ودليلهم: ما رواه البخاري ومسلم -واللفظ له- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»، فهو يخاطب سائر أهل الآفاق، ولم يقيد بأهل بلد دون غيرهم، فإذا وجب اعتبار رؤية أهل بلد في الصوم والإفطار وجب اعتبار رؤية غيرهم أيضًا.
قال العلامة البهوتي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 471، ط. عالم الكتب): [وإذا ثبتت رؤيته أي: هلال رمضان ببلد لزم الصوم جميع الناس؛ لحديث: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ»، وهو خطاب للأمة كافة] اهـ.
وأما الشافعية فذهبوا إلى أن هلال رمضان إذا رؤي في بلد ولم يُرَ في غيرها، فإِنْ تقارب البَلَدَان فهما كالبلد الواحد، ويَلزم أهلَ البلد الآخر الصوم، وإن تَبَاعَدَا فلا يجب الصوم على أهل البلد الآخر.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "المنهج" و"شرحه" (2/ 308-309، ط. دار الفكر): [وإن رُئِيَ الهلال بمحَلٍّ لزم حكمه محلًا قريبًا منه، وهو يحصل باتحاد المَطلَع بخلاف البعيد منه، وهو يحصل باختلاف المَطلَع أو بالشك فيه كما صَرَّح به في "الروضة" كأصلها، لا بمسافة القَصر] اهـ.
ونقل العلامة ابن المنذر أن رؤية الهلال لا تلزم غير أهل بلد الرؤية عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق بن راهويه. ينظر: "المجموع" للإمام النووي (6/ 282، ط. المنيرية).
ودليلهم: ما رواه مسلم عن كُرَيب بن أبي مسلم مولى ابن عباس رضي الله عنهما: أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية رضي الله عنه بالشام، قال: فَقَدِمْتُ الشَّامَ؛ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: "مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؟" فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: "أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟" فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ، وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه، فَقَالَ: "لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ، أَوْ نَرَاهُ"، فَقُلْتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: "لَا؛ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ".
وهذا الحديث ظاهر في أن كل قوم مكلفون برؤيتهم، ومورد هذا النص في الشام والحجاز، وقد وجد بينهما مسافة القصر، واختلاف الإقليم، واختلاف المطالع، واحتمال عدم الرؤية.
فأما احتمال عدم الرؤية فهو احتمال بعيد؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال لكريب: "أنت رأيته؟" فقال له كريب: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية رضي الله عنه. وأما احتمال مسافة القصر واختلاف الإقليم فليس متجهًا أيضًا، كما حققه العلامة الإمام محمد بخيت المطيعي في "إرشاد أهل الملة" (ص: 279، ط. مطبعة كردستان العلمية) بقوله: [إذا رجعنا إلى الواقع نجد أنه لا دخل في اختلاف الناس في رؤية الهلال بعد الغروب لمسافة القصر ولا لاختلاف الإقليم، وأن المدار في ذلك على اختلاف المطالع؛ فإنه ليس المراد باختلاف الناس في الرؤية أن هذا يرى وهذا لا يرى، بل المراد أن رؤية هذا للهلال بعد الغروب لا تعتبر رؤية للآخر؛ لأنه لا غروب ولا هلال في بلده، وهذا إنما يكون باختلاف المطالع، فليكن عليه المعول] اهـ.
أما ما استدل به الأولون من تعلُّق الخطاب بمطلق الرؤية في حديث: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» فهو صحيح، لكنه لا يشمل إلا كل من تحقق لديهم الرؤية بعد الغروب، أما من لم توجد عندهم الرؤية بعد الغروب؛ بأن كان وقت الغروب عند الرائين هو وقت طلوع الشمس عند غيرهم، فلا يجب عليهم صوم؛ لانتفاء سبب الوجوب وهو رؤية الهلال بعد الغروب، فليس الحديث بدالٍّ على عدم اعتبار المطالع.
والذي قرَّره مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في مؤتمره الثالث المنعقد في الفترة من: (30 سبتمبر إلى 27 من أكتوبر سنة 1966م) بشأن تحديد أوائل الشهور القمرية أنه: لا عبرة باختلاف المطالع وإن تباعدت الأقاليم، متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية وإن قل، ويكون اختلاف المطالع معتبرًا بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة. اهـ.
وتأكد هذا أيضًا في قراره رقم (42) في جلسته الثانية في دورته الثامنة والعشرين التي عُقدت، بتاريخ (23 ربيع الآخر لسنة 1412هـ الموافق 31 من أكتوبر لسنة 1991م) بشأن رؤية الهلال، ونصه: أنه إذا تعذر دخول الشهر القمري، وثبتت رؤيته في بلد آخر تشترك مع المنطقة في جزء من الليل، وقال الحسابيون الفلكيون: إنه يمكث لمدة عشر دقائق فأكثر بعد الغروب، فإن دخول الشهر العربي يثبت. اهـ.
وبناءً على ما تقدم وما تم ذكره في البحث المذكور وتصحيحًا لبعض ما جاء به من أخطاء علمية، وتوضيحًا لما تسير عليه الأمور في جمهورية مصر العربية في هذا المجال نبين ما يلي:
أولًا: بعض المفاهيم الأساسية:
- المشرق والمغرب: الإفراد هنا يدل على الاتجاه ناحية الشرق وناحية الغرب، وليس لله مشرق واحد ومغرب واحد فقط، فإذا كان شروق الشمس وغروبها يتغيَّر من يوم لآخر ربع درجة ذهابًا في اتجاه الشمال من لحظة الاعتدال الربيعي حول يوم 21 مارس، وحتى لحظة الانقلاب الصيفي حول يوم 22 يونيو، وإيابًا في اتجاه الجنوب من لحظة الانقلاب الصيفي، مرورًا بلحظة الاعتدال الخريفي حول يوم 21 سبتمبر، ثم لحظة الانقلاب الشتوي حول يوم 22 ديسمبر، ثم عودة إلى لحظة الاعتدال الربيعي مرة أخرى، وبذلك يكون للشمس 365 مشرقًا و365 مغربًا، لا تعود لشروقها منها إلا في الحول الذي يليه، ولكن الحقيقة أن الشمس لا تشرق من نفس النقطة المناظرة في السنة التالية، لاختلاف شروق الشمس من عام لعام يليه بمقدار ما تتحركه الأرض في 5 ساعات و48 دقيقة و46 ثانية، هو مقدار الزيادة في طول السنة عن 365 يومًا، وبذلك تكون مواقع الشروق والغروب لا نهائية العدد، لذا لا يكون لله مشرق واحد ولا مغرب واحد، ردًّا على تساؤلات اليهود: أَلله مشرق واحد ومغرب واحد؟ واتجاه المشرق والمغرب هو الذي يحدد اتجاه الجهات الأصلية التي تعتبر الأصل في اتجاهات المواقع، والتي منها تحدد اتجاهات القبلة، بحيث يحقق شرط أقصر مسافة إلى الكعبة؛ لأن أي توجه للكعبة يحتمل اتجاهين: أحدهما يحقق أدنى مسافة للوصول إلى الكعبة، وهو المضمون دقته، والآخر يحقق أقصى مسافة إليها، ويترتب على ذلك وجود نقطة على سطح الأرض في نصف الكرة الجنوبي من الجهة المقابلة للكعبة، تبتعد عنها نفس المسافة من جميع الاتجاهات، تسمى نظير القبلة -عرض 23 درجة جنوبًا وطول 131 درجة غربًا- أينما توجه وجهك منها فأنت في اتجاه القبلة، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللهِ﴾ [البقرة: 115]، وفيها لا يبحث أي مصلٍّ عن اتجاه القبلة، بل يتوضأ ويصلي، فأي اتجاه اتجهه هو اتجاه القبلة.
- والمشرقان والمغربان -كما في الآيتين: 142 من سورة الزخرف، و17 من سورة الرحمن- مثنى المشرق والمغرب، والتثنية هنا تتوافق مع الحقيقة العلمية في أن لكل نقطة على مسار الشمس السنوي مشرقين؛ حيث تشرق الشمس مرتين على كل نقطة في مسارها السنوي من الشرق إلى الشمال الشرقي، وتعود من الشمال الشرقي إلى نقطة الشرق، ثم إلى الجنوب الشرقي، ثم تعود إلى نقطة الشرق مرة أخرى، وهكذا بفاصل زمني بين كل مشرقين على نقطة واحدة يتراوح بين 6 أشهر وبين يوم واحد أو أقل، على كل من مساري الشروق والغروب.
- ومشارق الأرض ومغاربها: والجمع هنا يتفق مع ما تقول به الحقيقة الفلكية من أن الشمس تغير موقع شروقها وغروبها ربع درجة يوميًّا، كما جاء في فقرة الإفراد.
- واختلاف الليل والنهار -كما في الآيتين: 164 من سورة البقرة، و5 من سورة يونس- قد يعني تعاقب الليل بعد النهار، وقد يعني تغاير الليل في الصفات عن النهار، فهذا يقصر وذاك يطول، وأحيانًا يتساويان تقريبًا، ومن المعروف أن هذا التغير والاختلاف لا يتم بنفس التكرار والتتابع على مدار السنة، وفي كل سنة، إلا إذا كانت الأرض تغير موقعها في مدارها حول الشمس -تتحرك- وتغير بعدها عن الشمس -أي أن المدار بيضاوي تقع الشمس في إحدى بؤرتيه- وتغير سرعة حركتها حول الشمس، فتكون أسرعَ عند الاقتراب، وأبطأَ عند الابتعاد -اختلاف مساحة الأرض المغمورة بالشمس من وقت لآخر- حتى تظل الأرض سائرةً حول الشمس لا تنفلت من إسارها، وتغاير طول الليل والنهار من مكان لآخر على سطح الأرض يدل على عدم تماثل شكل الأرض؛ حيث أثبتت الصور التي التُقطت لها من الفضاء أنها ليست كاملة الاستدارة أو الكروية بسبب سرعة الدوران حول نفسها؛ حيث تبلغ 20 كم في الثانية، واختلاف تأثير القوة الطاردة المركزية في حزام الاستواء عنها في منطقة القطبين، وذلك ما يسبب التفلطح الذي يجعل القطر الاستوائي أكبر بثلاثة وأربعين 43 كم من القطر القطبي، ولا تتغير أطوال الفصول من مكان لآخر، ومن الشمال إلى الجنوب، إلا إذا كان محور دورانها مائلاً على مستوى مدارها، وهذه آيات لم يخاطب بها الله إلا القوم العاقلين.
- خلق السموات والأرض: كما في الآيتين: 190 و191 من سورة آل عمران، خلق السموات والأرض آية هي قمة الآيات، ولو تأملنا في السموات والأرض خصوصًا باستخدام التلسكوبات العملاقة والفضائية التي تدور حول الأرض، لوجدنا الكواكب والأقمار والنجوم والحشود النجمية والمجرات وما اكتُشف حديثًا من الأجسام الغريبة، مثل الثقوب السوداء وأشباه النجوم -الكوازارات Quasars- والنوابض ونجوم النيترون والمتوهجات -البليزرات Blazars- وهو ما تعبر عنه الآية الكريمة ﴿لَخَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [غافر: 57].
ولا يعلم بآيات ذلك الكون العجيب ويتفكر فيها إلا أولو الألباب.
- الضياء والنور: كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآء وَٱلۡقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَ﴾ [يونس: 5]، والضياء لا يأتي إلا من جسم ملتهب، وذلك ما تتميز به الشمس، والنور لا يأتي إلا عن طريق جسم بارد بالانعكاس أو بغيره، وذلك ما يختص به القمر، وجعل القمر منازل: وهي المواقع النجمية التي ينزل بها القمر كل ليلة، وكان العرب قبل الإسلام يعتقدون أن القمر ينزل ضيفًا على نجوم هذه الليلة؛ لذلك سميت الخلفية النجمية لهذه الليلة منزلًا، وعدد هذه المنازل 28 منزلة، تعرف بأسمائها التي سميت بها آنذاك، وهي:
1- الشَّرَطان أو النَّطْح.
2- البُطَين.
3- الثُّرَيَّا.
4- الدَّبَران.
5- الهَقْعَة.
6- الهَنْعَة.
7- الذراع أو ذراع، أو الذراع المقبوضة، أو الذراع المبسوطة.
8- النَّثْرَة.
9- الطَّرْف.
10- الجَبْهَة.
11- الزُّبْرة أو الخرطان.
12- الصَّرْفة.
13- العَوَّاء.
14- السِّمَاك، أو السماك الأعزل.
15- الغَفْر.
16- الزُّبانة.
17- الإكليل.
18- القلب.
19- الشَّوْلة، وأحيانًا الإبرة، أو إبرة العقرب.
20- النَّعائِم، وهما مجموعتان كل منهما 4 نجوم، هما: القوس والوصل الفاصل بين هاتين المجموعتين.
21- البلدة، منطقة خالية من النجوم بين المنزلتين 20 و22.
22- سعد الذبيح، أو سعد ذابح.
23- سعد بلاع.
24- سعد السعود.
25- سعد الأخبية.
26- الفَرْغ المقدم، أو الفرغ الأول.
27- الفَرْغ المؤخر، أو الفرغ الثاني.
28- بطن الحوت، أو الرشا.
وبعد هذه المنازل تأتي منزلة المحاق، وعادةً ما تجيء في مساء التاسع والعشرين، التي يُلتَمس فيها هلال أول الشهر القمري أو مساء الثلاثين، والتي لا يزيد فيها طول الشهر عن ذلك.

الفرق بين ميلاد الهلال ورؤية الهلال


الفرق بين ميلاد الهلال ورؤية الهلال: ميلاد الهلال هي اللحظة التي يعبر فيها مركز القمر خط الاقتران أو الاجتماع، وهو الخط الواصل بين مركزي الأرض والشمس، وهذه لحظة عالمية بالنسبة لمركز الأرض، وتختلف قليلًا لمن هم على سطحها ودون تأثير كبير بين من هم في أدناها ومن هم في أقصاها، وتقع هذه اللحظة ما بين منتصف ليل التاسع والعشرين وصباح يوم الثلاثين من الشهر القمري، وهي لحظة لا تُرَى ولا تُرصد بأي وسيلة إلا في حالات الكسوف، حينما يبلغ الكسوف أوجه -مركز الكسوف- حينما نرى مركز ظل القمر منطبقًا على مركز قرص الشمس أو واقعًا على خط الاقتران، وهذا الخط ليس مقياسًا لرؤية الهلال، ولا يعول عليه في الحكم بدخول الشهر من عدمه، لا فلكيًّا ولا شرعيًّا.
أما رؤية الهلال: فهي اللحظة التي يرى فيها ضوء القمر من سطح الأرض بعد افتراقه وابتعاده 8 درجات على الأقل عن خط الاقتران، فإذا جاءت هذه اللحظة بعد غروب الشمس، وكانت الظروف الجوية مواتيةً وفترة المكث لا تقل عن عشر دقائق، أمكن رؤية الهلال، وهي الرؤية التي يعول عليها في الحكم بدخول الشهر من عدمه، ولا تعتمد على موعد ميلاد الهلال كما سيأتي تفصيله فيما بعد.
- الاشتراك في جزء من الليل: في كثير من المؤتمرات واللقاءات جاء ذكر هذه العبارة، وهي في الواقع عبارة مضللة؛ لأن كل دول العالم مشتركةٌ فيما بينها في أجزاء الليل، فاليابان مثلًا: تشترك مع الهند ومع الصين في جزء من الليل، والصين تشترك مع إيران في جزء من الليل، وكذلك تشترك مع السعودية والسعودية مع مصر، ومصر مع ليبيا، وليبيا مع تونس والجزائر، والجزائر مع المغرب، وقِسْ على ذلك الدول المشتركة مع ما ذكر من دول في خطوط الطول شمالًا وجنوبًا.
الكسوف والخسوف: الكسوف لا يحدث إلا للشمس، ويأتي في الفاصل الزمني بين الشهر القمري القديم والجديد، والكسوف كلمة واحدة في اللغة العربية يقابلها كلمتان في اللغة الإنجليزية وهي solar eclipse، والخسوف لا يحدث إلا للقمر حينما يكون بدرًا في منتصف الشهر القمري، والخسوف كلمة واحدة في اللغة العربية، يقابلها كلمتان في اللغة الإنجليزية وهي lunar eclipse.

أحاديث رؤية الهلال في السنة المطهرة


ثانيًا: أحاديث الرؤية: يقول الحديث الشريف: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ...» وتأخذ تكملة الحديث عباراتٍ مختلفةً كما يلي: «فَأَتِمُّوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ»، «فأتِمُّوا عدة شعبان ثلاثين»، «فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ»، «حَتَّى تَرَوَا الْهِلَالَ، أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ»، «فَصُومُوا ثَلَاثِينَ»، «أَحْصُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ»، «فأكملوا العَدَّ ثلاثين»، «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ»؛ «فَإِنَّهَا لَيْسَتْ تُغْمَى عَلَيْكُمُ»، «فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ»، «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ»، «فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا»، «فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا»، «فَعُدُّوَا لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا»، «اقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ»، «اقْدُرُوا لَهُ».
وفي مجموعة أخرى من الأحاديث نجد حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا» رواه الشيخان، وفي لفظ عنه أيضًا: «الشَّهْرُ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ»، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» رواه البخاري، وفي لفظ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه، فقال: «الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا -ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ- فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِه، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا ثَلَاثِينَ»، وفي لفظ: «اقْدِرُوا لَهُ».
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيه وآله وَسَلم ذَكَرَ رَمَضَانَ، فَقَالَ: «لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ»، وفي لفظ لأبي داود: «لَا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ بِصِيَامِ يَوْمٍ، وَلَا يَوْمَيْنِ،... وَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ...» الحديث، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ، أَتِمُّوهُ ثَلَاثِينَ» رواه الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي بسند صحيح، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ" أخرجه أبو داود.
وقد سبق إيراد نصوص جماعة من أهل العلم -كمطرف وابن قتيبة- على أن معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فاقْدُرُوا له»: أي: استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه، وسبق أيضًا عن الإمام أبي العباس بن سُرَيج أن في الحديث نوعين من الخطاب، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ» خطاب لعامة القوم الذين لم يروا الهلال، ولا يحسنون تقدير المنازل والحساب الفلكي، وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فاقدُرُوا له» فخطاب للعارفين منهم بعلم الهيئة لحثِّهم على حساب موقعه.
وعلى ذلك: فقد ألهم الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم في كلامه بهذا الصدد حاجةَ المسلمين إلى تفصيل هذه القضية بما فيها من مُلَابَسات ومُدَاخَلَات واختلافات ناشئة عن طبيعة حركة القمر حول الأرض، واختلاف مطالعه من قُطْرٍ لآخر، واختلاف سرعته من نقطة لأخرى في مداره، والقلاقل التي يعاني منها أثناء سَبْحِهِ في هذا المدار، وتغيُّر مواقع العُقَدِ الصاعدة والهابطةِ على مداره في الفضاء، إلى غير ذلك من العناصر المختلفة التي تحكم حركة القمر.
كذلك فإن القرآن الكريم بما أودع الله فيه من إعجاز في التعبير اللفظي، وبلاغة في المعنى، وجَرْسٍ موسيقي، جعل حتمية التعبير عن هذه القضية إيجازًا دون تفصيل، وإجمالًا دون استطرَاد، وكانت التعبيرات المُكَمِّلة مُتَّسِقَة مع كل المستويات الفكرية التي مرَّ بها العقل البشري، ومع تطورها الفكري والحضاري منذ نزول القرآن وإلى أن تقوم الساعة.

طرق معرفة الشهر الهجري "القمري"


ثالثًا: الرؤية وأساسياتها وتوابعها: ومن التيسير على الناس أن جعل الله الظواهرَ الفلكية المعتادة علاماتٍ يُهتدى بها في مواقيت الصلاة، والصيام، والإفطار، ودخول الأشهر القمرية الشرعية.
ولمعرفة دخول الشهر القمري طريقتان:
الطريقة الأولى: طريقة مرئية، وفيها يُرى الهلال في الأفق الغربي بعد غروب شمس التاسع والعشرين من الشهر المنصرم، وحول مكان غروبها، ومِثْلُها في ذلك مثلُ علامات دخول الصلوات التي تتعلق بحركة الشمس الظاهرية حول الأرض، فعلامة دخول وقت الظهر: أن تميل الشمس قليلًا على خط زوال المكان: ﴿أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودا﴾ [الإسراء: 78]، والعصر: حينما يصير ظل الشيء مثله، والمغرب: عند اختفاء الحافة العليا لقرص الشمس تحت حافة الأفق، والعشاء: حينما ينتهي الشفق المسائي الأحمر، والفجر: حينما يبدأ الشفق الصباحي الصادق.
الطريقة الثانية: طريقة حسابية، في الحالة التي تتعذَّر فيها الرؤية بعد غروب شمس التاسع والعشرين بسبب مانع جوي، كالسحاب والضباب والدخان وشدة استضاءة الشفق، واقتراب الهلال من نقطة غروب الشمس، ولهذه الطريقة سبيلان: فإما الحساب العددي لإكمال الشهر ثلاثين يومًا إذا حدثت الغُمَّةُ، وإما حساب منازل القمر، فإذا دَلَّ الحسابُ على وجود الهلال فوق الأفق بعد غروب الشمس، وحال بينه وبين الرؤية عواملُ جويةٌ وغيرها، لزم الصوم حينئذ؛ لوجوب السبب المقتضي، وهو العلم بطلوع الهلال فوق الأفق، أما إذا دل الحساب -في وجود الغيم- على عدم ظهور الهلال فوق الأفق بعد غروب الشمس لأنه سبقها في الغروب، فإن الشهر يكمل ثلاثين، فلا يجوز صيام يوم الغيم إذا كان في نهاية شعبان، ولا يجوز إفطاره إذا كان في نهاية رمضان؛ لِمَا في ذلك من غلبة الظن بعدم وجود الهلال خلف السحاب، وهذا ما قاله الإمام أبو الفتح محمد بن علي القشيري المنفلوطي المالكي الشافعي المعروف بابن دقيق العيد، وهو ممن بلغ رتبة الاجتهاد، وقد ولد بساحل ينبع بالحجاز سنة [625هـ]، وتوفي بالقاهرة سنة [702هـ]؛ حيث يقول في "شرح العمدة" (2/ 8): [وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يُرَى لولا وجود المانع -كالغيم مثلًا- فهذا يقتضي الوجوب؛ لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية بشرط من اللزوم؛ لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بإكمال العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم وإن لم يَرَ الهلال ولا أخبره من رآه] اهـ.
وللعلماء تحقيقات كثيرة في تأييد هذا المذهب، وليس في الحديث الشريف ردٌّ على من قال بجواز الصوم بالحساب؛ لأن الحساب ما خرج بالشهر عن كونه تسعة وعشرين تارة، وثلاثين تارة أخرى، كما أفتى بذلك الشيخ السبكي في "فتاويه"، وكما أصبحنا في الصلاة نعتمد على المواقيت المحسوبة سلفًا، وننظر في ساعات أيدينا أو ساعات الحائط، دون النظر في موقع الشمس من صفحة السماء، ودون التماس الظواهر الفلكية التي تَنُمُّ عن بدء مواقيت الصلاة ثم نؤذن لها، فإننا يمكن أن نستدل على وجود الهلال من عدمه من خلال الحسابات الموثوق بها، والتي يجريها الحَسَبةُ الثقاتُ.

أسس حساب رؤية الهلال


رابعًا: أسس حساب رؤية الهلال:
1- نتيجة لحركة الأرض حول نفسها مرة كل 24 ساعة من الغرب إلى الشرق، فإن الشمس والقمر يشرقان من جهة الشرق، ويغربان من جهة الغرب.
2- يميل مستوى مدار القمر حول الأرض على مستوى مدار الأرض حول الشمس خمس درجات وثماني دقائق في المتوسط، متراوحًا بين 5 درجات و20 دقيقة، و4 درجات و48 دقيقة، ويترتب على ذلك:
- عدم حتمية حدوث الكسوف أول كل شهر قمري، وعدم حتمية حدوث الخسوف في منتصف كل شهر قمري.
- يتقارب مَسَارَا الشمس والقمر على صفحة السماء من نقطة الشروق إلى نقطة الغروب، فيقتربان ويبتعدان فيما لا يزيد عن خمس أو ست درجات على أكثر تقدير.
3- لو أهملنا حركة الأرض حول الشمس التي تعتبر أقل من درجة يوميًّا -59.14 دقيقة قوسية- نجد أن القمر يسير تجاه الشرق 13 درجة قوسية كل يوم، أي درجة كل ساعتين تقريبًا، لذا يكون القمر في سباق دائم مع الشمس، فيلحق بها ويتخطاها مرةً كل شهر، واثنتي عشرة مرة كل سنة، أي بعدد شهور السنة.
4- تتيح سرعة دوران القمر في مداره حول الأرض -1 كم/ ث تقريبًا- أن يقطع دورته النجمية حول الأرض في 27 يومًا و7 ساعات و43 دقيقة و11.6 ثانية إذا كانت الأرض ثابتةً في مكانها حول الشمس، وحيث إنها متحركة هي والقمر حول الشمس، فلا يعود القمر إلى المكان الذي بدأ منه دورته إلا بعد 29 يومًا و12 ساعة و44 دقيقة و2.9 ثانية في المتوسط، وهو ما يعرف بالشهر الاقتراني Synodic Month. 5- حيث إننا نقيس الشهر العربي بالأيام بدءًا من غروب الشمس حتى غروبها في اليوم التالي، لذا فالشهر إما 29 يومًا أو 30 يومًا، مع احتمالية غالبة أن يكون ثلاثين يومًا؛ نتيجةً لتراكم الوقت الزائد عن 29 يومًا و12 ساعة وهو 44 دقيقة و2.9 ثانية كل شهر، بالإضافة إلى متغيرات أخرى متعلقة بالحركة غير المنتظمة للقمر في مداره، ما بين الحضيض والأوج.
6- نتيجة لكل ما سبق يتأخر غروب القمر عن غروب الشمس من 40 إلى 50 دقيقة عن اليوم السابق تبعًا لخطوط الطول ودوائر العرض المختلفة.
7- وفي اليوم التاسع والعشرين من الشهر العربي، قد يأتي غروب القمر قبل غروب الشمس فلا يُرَى الهلالُ، وقد يأتي بعد غروبها فيحتمل رؤيته، ويقال: إن مُكْثَ الهلال سالب، أو يقال: إن مُكْثَ الهلال موجب، تبعًا لظروف معينة يأتي ذكرها فيما بعد. قيمة المُكْثِ تكون أكبر في البلاد الكائنة تجاه الغرب مثل: ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب، وما شابهها.
8- باستخدام معادلات غروب الجسم السماوي يتم حساب زمن غروب الشمس وزمن غروب القمر في التاسع والعشرين من كل شهر عربي، وهي نفس معادلات مواقيت صلاة المغرب، ونُؤَذِّن لها اعتمادًا على المواقيت المدونة في النتائج سلفًا، دون التأكد من ذلك بالنظر إلى اختفاء الحافة العليا لقرص الشمس تحت أفق المكان الذي يُؤَذَّن فيه، أو صلاة الظهر حينما يَعْبُر مركز قرص الشمس خط زوال المكان، أو الدائرة الوهمية التي تصل بين نقطتي الشمال والجنوب، مرورًا بِسَمْتِ الرأس.

حالات الرؤية تبعًا للحسابات الفلكية


خامسًا: حالات الرؤية تبعًا للحسابات الفلكية: تبعًا للحسابات الفلكية نجد أن حالات رؤية هلال الشهر القمري خمسة: أربعة منها قاطعة، لا تتأثر باختلاف المطالع، والخامسة تتأثر بها: الحالة الأولى: هي أن يغرب القمر قبل غروب الشمس -أي أن المُكْثَ سالبٌ- في جميع البلاد العربية والإسلامية، وبهذا تستحيل الرؤية، ويُحكَم فيها بإكمال عدة الشهر ثلاثين يومًا، وتُرَدُّ شهادة أي شاهد، حتى وإن كان مشهودًا له بالتقى والورع؛ لأنه يكون قد توهم الرؤية توهمًا.
والحالة الثانية: هي أن يغرب القمر بعد غروب الشمس -أي أن المُكْثَ موجب- في جميع البلاد العربية والإسلامية، وتكون احتمالات رؤيته قائمةً تبعًا لمدة المكث في كل بلد، وفي هذه الحالة يحكم بأن يكون اليوم التالي هو غرة الشهر الجديد، ويؤخذ في هذه الحالة بشهادة أي شاهد عدل، في أي بلد إسلامي، رجلًا كان أو امرأة.
الحالة الثالثة: هي أن يأتي ميلاد القمر أو اقترانه بعد غروب الشمس؛ وهو ما يعني أن الدورة الفلكية للشهر العربي الجديد لم تبدأ بعد، وبذلك لا يُرَى الهلالُ، وإذا رُئِي الهلالُ بعد الغروب وقبل الاقتران في حالة تأخر الاقتران إلى قرب منتصف الليل -وهي حالة نادرة وشاذة- فتكون الرؤية لهلال آخر الشهر، ويكون قَرْنَاه إلى أسفل تجاه الشرق، ولا يعتد به في الرؤية، وبذلك يكون اليوم التالي متممًا، كما يقول ابن تيمية وابن قَيِّم الجوزية: لا رؤية قبل الاقتران، وتُرَدُّ حينئذ شهادة الشهود، وإن كانوا في الواقع قد رأوا الهلال، وفيها يحكم بإكمال الشهر ثلاثين يومًا.
الحالة الرابعة: هي أن تغرب الشمس كاسفةً، وهو ما يعني أن حالة الاقتران تتم أثناء الغروب، وبهذا لا يمكن رؤية الهلال؛ لأن أشعة الشمس تكون عموديةً على سطح الأرض، مما يجعلها تَرْتَدُّ إلى سطح الشمس في صورة ظل على سطح الشمس، ولا تنعكس تجاه الأرض، ولا يرى أيُّ أثر للهلال، وبذلك يكون اليوم التالي متممًا، وقد جاء على لسان الشيخ محمد رشيد رضا أن الشمس غربت يوم التاسع والعشرين من شعبان كاسفةً، وجاءنا مَنْ هو مشهود له بالتقى والورع ليقول إنه شاهد الهلال، فرددنا شهادته؛ لأنه تَوَهَّم رؤية الهلال توهُّمًا.
الحالة الخامسة: وهي الحالة التي تسبب الالتباس والاضطراب خصوصًا في شهري الصوم والحج، وهي حالة غير قاطعة وتتأثر فيها رؤية الهلال باختلاف المطالع، وتمثل حوالي 24% على مدار أهِلَّة السنة، أي أن حدوثها في أول رمضان يمثل نسبة 2% فقط من مجموع حالات الرؤية، أي أنها تحدث في رمضان بمعدل مرتين في أوله ومرتين في آخره كل ثماني سنوات، وفيها يكون اختلاف المطالع بين الشرق والغرب ذا تأثيرٍ كبير، وهي حقيقة علمية تنشأ من طبيعة مدار القمر حول الأرض، ويجب أن تؤخذ في الاعتبار عند اتخاذ أي قرار، وتنقسم إلى ثلاث حالات رئيسة:
1- أن يغرب القمر بعد غروب الشمس في معظم البلاد العربية والإسلامية، ويغرب في بعضها قبل غروب الشمس، وفي هذه الحالة يكون لكل بلد مطلعه الذي يحكم فيه بدخول الشهر من عدمه، وهذا جائز شرعًا، والدليل على ذلك: ما أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه"، والإمام الترمذي في "سننه"، والإمام أحمد في "مسنده"، عن كريب مولى ابن عباس رضي الله عنهما والذي ورد ذكره آنفًا.
2- أن يغرب القمر قبل غروب الشمس في معظم البلاد العربية والإسلامية، ويغرب في بعضها بعد غروب الشمس.
3- أن يغرب القمر قبل غروب الشمس في نصف البلاد تقريبًا، ويغرب بعد غروبها في النصف الآخر تقريبًا، وفي الحالتين السابقتين -الثانية والثالثة- قد يؤخذ بمبدأ اختلاف المطالع كما في الحالة الأولى، أو لا يؤخذ تبعًا لما يقرره أولو الأمر في هذا الصدد. سادسًا: الشاهد العدل: يجب أن تتوفر في الشاهد العدل شروطٌ شرعيةٌ وفلكيةٌ، والتي لو أُخِذَت في الاعتبار، وطبقتها كل الدول الإسلامية؛ لتوافقت أوائل الشهور القمرية في جميع البلاد الإسلامية، بنسبة لا تقل عن 80%، وتعتبر هذه المشكلة هي حجر الزاوية في قضية توحيد بدايات الشهور العربية في الدول الإسلامية، فليس هناك تناقض بين الرؤية الصحيحة التي يحققها الشاهد العدل، والحسابات الصحيحة التي تتحقق في هذه الأيام بالتقنيات الحديثة، والحاسبات الإلكترونية العملاقة، التي تصل فيها درجة الدقة إلى ما يقرب من مائة بالمائة، في ظل الفهم السليم لطبيعة مداري الأرض والقمر، لذا يجب أن يتحقق في الشاهد العدل شروط أربعة:
1- أن يكون صحيح البدن، بَيِّنَ العقل.
2- أن يكون صحيح البصر، وليس حادَّه -كزرقاء اليمامة مثلًا- ليكون الحكم للعامة.
3- أن يكون مشهودًا له بالتقى والورع.
4- أن يكون على علم بمكان وزمان وهيئة الهلال أثناء التماسه. ويكون على أولي الأمر الذين لهم سلطة إصدار قرار الصيام أو الإفطار، أن يختبروا قدرات الشاهد البدنية والنفسية والعلمية، على ضوء ما تحدده الحسابات الفلكية عن ظروف الرؤية، وحالة الهلال إِبَّان التماسه، فإذا تحقق وجود هذا الشاهد العدل في كل الدول الإسلامية؛ فلن تختلف نتائج الحسابات الدقيقة عن الرؤية البصرية التي يجريها الشهود العدول، إلا فيما تسمح به اختلافات المطالع التي أقرَّ بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

أماكن وأزمنة التماس الهلال


سابعًا: أماكن وأزمنة التماس الهلال: تخضع الظروف الواجب توافرها في مواقع التماس هلال أوائل الشهور القمرية إلى العوامل التالية:
1- مكان وزمان التماس الهلال وهيئته على صفحة السماء: نظرًا لأن مستوى مدار القمر حول الأرض يميل على مستوى مدار الأرض حول الشمس خمس درجات وثماني دقائق في المتوسط، لذا تجيء نقطة غروب القمر على يسار نقطة غروب الشمس أو على يمينها بحوالي خمس درجات قوسية -قطر قرص كل من الشمس والقمر يغطي نصف درجة قوسية على صفحة السماء تقريبًا- وهو ما يُعبَّر عنه بالفرق بين زاويتي القمر والشمس السَّمْتِيَّتَين وقت الغروب، أما ارتفاع الهلال عن الأفق فيعتمد على مقدار المُكْثِ، فكلما زاد المكث زادت زاوية ارتفاع الهلال على الأفق.
أما وقت التماس الهلال: فيُلتَمَس الهلال منذ لحظة الغروب وحتى تنقضي مدة المكث، ويلتمس الهلال حول منطقة غروب الشمس بخمس درجات إلى يمينها وخمس درجات إلى يسارها. يغطي قرص الشمس نصف درجة.
- وأنسب الأماكن لالتماس الهلال: هي الأماكن المرتفعة عن سطح البحر ذات أفق غربي مكشوف، بعيدًا عن المباني والمآذن والأبراج والأشجار، والمصانع التي تنفث الدخان، وكذلك الأماكن البعيدة عن أضواء المدينة، والمنعزلة عن الطرق الرئيسة، ولا تنعكس على أفقه الغربي أضواءُ السيارات المبهرة.
- يكون اتجاه قَرْنَي هلال أول الشهر وقت التماسه إلى أعلى تِجَاه الشرق، وإذا كان قرناه إلى أسفل تِجَاه الغرب فهو هلال آخر الشهر، ولا يُعتدُّ برؤيته، وهي من الحالات النادرة التي تحدث حينما يحدث الاقتران بعد الغروب بفترة كبيرة لا تقل عن سبع ساعات.
2- عمر الهلال وعلاقته بالجزء المضاء من سطح القمر: عمر الهلال ليس دالة في مكثه، فقد يكون عمره كبيرًا ومكثه صغيرًا أو بلا مكث أو سالب المكث، والمقصود بعمر الهلال في لحظة معينة: هو الزمن الذي ينقضي منذ ولادته حتى لحظة معينة، وعادةً ما تكون هذه اللحظة هي غروب شمس يوم الرؤية، أو غروب شمس اليوم التالي إذا كان الميلاد بعد غروب شمس التاسع والعشرين من الشهر القمري.
الجزء المضاء من سطح القمر والذي يسمح برؤيته من سطح الأرض بعد افتراقه 8 درجات عن خط الاقتران هو 0.01 إذا كان القمر يبعد عن الأرض بقدر المسافة المتوسطة بين الأرض والقمر وهي 384400 كم، وتَقِلُّ هذه النسبة إذا قَلَّت المسافة، وتزداد بزيادتها، وذلك في وجود ظروفٍ جوية مناسبة.
عمر القمر -طال أو قَصُرَ- ليس دالة في مكثه، والذي يتحكم في ظروف رؤيته هو انحراف مستوى مداره على مستوى مدار الأرض، إلى جانب اختلاف لَمَعَانِ مناطق سطح القمر التي ينعكس مِنْ عليها ضوءُ الشمس الألبيدو.
3- حالات الكسوف ومدلولاتها: تعتبر حالات الكسوف من الدلائل القوية على انتهاء الشهر القمري فلكيًّا، أو بالأحرى يدل عليه مركز الكسوف، سواء كان كليًّا أو جزئيًّا أو حلقيًّا أو مختلطًا، وإذا كان وقوع الكسوف يوم التاسع والعشرين فإن ذلك يدل دلالةً قاطعةً على عدم إمكانية رؤية الهلال في ذلك اليوم، ويُحْكَم بإتمام الشهر ثلاثين يومًا، وقد بلغ العلم بدقائق نظرية المدارات theory of orbits ما يجعل التنبؤ بميعاد الكسوف والخسوف على درجة كبيرة من الدقة تصل إلى جزء من ألف جزء من الثانية الواحدة.
ولذا يرى المحققون من الفقهاء المتأخرين قطعية الحساب الفلكي وضرورة العمل به في هذا الزمان؛ لسهولة تداوله ودقة ضبطه وتخزينه في أقراص مغناطيسية مدمجة لها قدرة على استيعاب كمٍّ هائل من المعلومات في حجم صغير، هذه الحاسبات الآلية لم يكن لها مثيلٌ في الماضي، بالإضافة إلى امتداد نشاط المسلمين في أماكنَ متطرفةٍ من شمال المعمورة وجنوبها لا تتحقق فيها الرؤية، وتغيب أو تختل فيها العلامات الفلكية للأهِلَّة ولمواقيت الصلاة؛ وذلك لطول الليل وقِصَرِ النهار، أو للعكس، أو استمرار شروق الشمس أو غروبها لمدة ستة أشهر.

منهج دار الإفتاء المصرية في إثبات دخول الشهر القمري


ثامنًا: منهج دار الإفتاء المصرية في إثبات دخول الشهر القمري: تعمل دار الإفتاء المصرية من خلال إيمانها بضرورة اتباع السنة الشريفة في حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ...» على تشكيل لجان مختلفة تقوم بالتماس الهلال في عشرة أماكن من جمهورية مصر العربية: في حلوان، والقطامية، و6 أكتوبر، والسلوم، وقنا، وأسوان، والواحات، وتوشكى، ومَرْسَى علم، وسانت كاترين، وتتكون كل لجنة من أحد الفلكيين بالمعهد القومي للبحوث الفلكية وأحد الشرعيين من دار الإفتاء أو من أئمة المساجد المؤهلين في أماكن التماس الهلال، وعضو من هيئة المساحة، ويشترك أحيانًا في هذه اللجان بعض الفلكيين من قسمي الفلك في كُلِّيَّتي العلوم جامعتي القاهرة والأزهر؛ ليتحقق بذلك البنود الأربعة للشاهد العَدْلِ، الذي يستأنس بالحسابات الفلكية التي أصبحت في عصر التقنيات الحديثة قاطعةً، أما الرؤية البصرية فقد أصبحت الآن ظَنِّيَّة؛ نظرًا لحالات التلوث التي أصبحت سمةً غالبةً لسماء الآفاق المختلفة من الكرة الأرضية، خصوصًا مناطق الأفق الغربية، والآفاق الملبدة بالغيوم، وفي ظل سلوكيات خاطئة تسرف في استخدام الرفاهيات التي تعمل على تكسير طبقة الأوزون المسخرة من المولى سبحانه وتعالى؛ لحماية الإنسان وسائر المخلوقات من خطر الأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس، وبذلك نكون قد اتبعنا السنة الشريفة بأسلوب وإجراء عصري متقدم يسمح باستخدام هذه التقنيات بما يحقق للمسلمين الأخذ بأسباب العلم لإرساء أحكام الشريعة الصحيحة.

قضية توحيد أوائل الشهور القمرية لجميع المسلمين في العالم


تاسعًا: القمر العربي الإسلامي المقترح لرصد هلال أوائل الشهور القمرية: هو مشروع قَطَعَ مرحلة كبيرة من مراحل تنفيذه، أُجرِيَت له دراسات جادة وتم الاتفاق على كثير من جوانبه، ويتم الآن الاكتتاب له، حتى يضمن التمويل اللازم لإطلاق عدة أجيال من هذه الأقمار، ويتم رصد الهلال بهذا القمر عن طريق تلسكوب محمول على ظهر القمر الاصطناعي، ويوجه هذا التلسكوب في يوم التاسع والعشرين من الشهر العربي إلى أفق الرؤية، الذي يجب أن ينطبق على أفق رؤية الراصد على سطح الأرض بعيدًا عن السحب والموانع الجوية المختلفة، فإذا كان الهلال موجودًا فوق الأفق يتم إرسال صورته إلى شاشات التلفاز العادية، وبذلك يراه كل المشاهدين رَأْيَ العين، ويقطع القمر الصناعي دورته حول الأرض في حوالي ساعة ونصف، يقضي جزءًا منها على أفقِ كثيرٍ من الدول العربية والإسلامية بعد الغروب بما يتيح رؤية الهلال الطبيعي على شاشات تلفازاتها.
ويعوق تنفيذ هذا المشروع عاملان:
أولهما: علمي، وهو عدم حل مشكلة اختلاف المطالع.
والثاني: داخلي، حيث يصر بعض المتشرعين على عدم استخدام التقنيات الحديثة، ويصرون على الرؤية البصرية بالعين المجردة، وهو ما يمثل شرخًا في جدار توحيد كلمة المسلمين.
وندعو الله العلي القدير أن يوحد كلمة المسلمين، وأن يجمع شملهم على الحق.

أيهما أثبت "أفضل" في إثبات الأهلة التقويم القمري أم التقويم الشمسي


عاشرًا: التقويم القمري أم التقويم الشمسي؟ يعتبر التقويم القمري أكثر تحديدًا ودقة؛ لأنه يستخدِم ظواهرَ فلكيةً واضحةً أمام عامة الناس وخاصتهم، فاليومُ يبدأ مع غروب الشمس، والسنة تبدأ مع غروب شمس آخر يوم في شهر ذي الحجة، ومتوسط طول الشهر فيه 29 يومًا و12 ساعة و44 دقيقة و2.9 ثانية، وعدة الشهور في السنة القمرية اثنا عشر شهرًا كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرا فِي كِتَٰبِ ٱللهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُم﴾ [التوبة: 36]، وهذه الآية الكريمة مطبقة في جميع التقاويم العالمية لجميع الملل والأديان، وكل هذه التقاويم تُقِرُّ بأن طول السنة اثنا عشر شهرًا، ويبلغ طول السنة القمرية 354.3670556 يومًا أو 354 يومًا و8 ساعات و48 دقيقة و33.6 ثانية، والذي يميز بداية السنة القمرية هو وضوح بدايتها ونهايتها، وهي اللحظة الأولى من غروب شمس آخِرِ يوم من شهر ذي الحجة، أما السنة الشمسية فهي غير محددة البداية في كل عام حيث يبلغ طولها 365.24189814 يومًا أو 365 يومًا و5 ساعات و48 دقيقة و45.2 ثانية، ويكون طول السنة الشمسية أطول من طول السنة الهجرية بـ10 أيام و20 ساعة و59 دقيقة و46.4 ثانية، ولأن بداية السنة الشمسية الحقيقية الذي يحددها انتهاء دورة الأرض حول الشمس، لأن السنة الشمسية تبدأ في كل عام بدايةً مختلفةً؛ نظرًا لضرورة كبس السنين ليكون هناك ثلاث سنوات بسيطة فبراير فيها 28 يومًا، والرابعة كبيسة فبراير فيها 29 يومًا، ورغم هذا الكبس فالكسر في طول السنة الشمسية لا يُعوَّض؛ لأن الكسر أقل من الربع، وبذلك نضطر لتعويض هذا الكسر بجعل السنوات القرنية التي لا تقبل القسمة على 400، سنواتٍ بسيطةً، والتي تقبل القسمة على 400 سنةً كبيسةً، ومع ذلك يظل الكسر غير مجبور، ويجب تعديله بعد ثلاثة آلاف من السنين.

المعايير القياسية في إنشاء المراصد والمراكز الفلكية


حادي عشر: المعايير القياسية في إنشاء المراصد والمراكز الفلكية: المراصد الفلكية هي المؤسسات الحكومية التي أنشأتها الدولة بقرارات رسمية، وتحوي بين جدرانها أجهزةً وآلاتٍ فلكيةً قديمةً أو حديثةً متطورةً أهمها المقاريب -التلسكوبات- التي تستخدم في عمليات الرصد المختلفة، سواء رصد القمر أو رصد الأجرام السماوية الأخرى، ويقوم بالعمل على هذه الأجهزة فلكيون حاصلون على الأقل على الدرجة الأولى في علم الفلك -البكالوريوس-، ويمارسون القيام بالبحوث الفلكية في سبيل الحصول على الماجستير في علم الفلك، بما يتيح لهم أن يكونوا أعضاءً في الاتحاد الدولي الفلكي أقدم مؤسسة فلكية بين جميع المؤسسات العلمية في العالم، والمؤسسات الفلكية العربية التي تنطبق عليها هذه المواصفات نادرة جدًّا ونذكر منها:
- المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بجمهورية مصر العربية، والذي تم إنشاؤه عام 1903م، وله ثلاثة مقاعد بالاتحاد الدولي الفلكي -مثل فرنسا-، كل مقعد يتيح اشتراك 23 عضوًا فيه، وتبلغ عضوية المصريين المسجلة فيه حوالي 65 عضوًا، وكل أعضائه من الفلكيين خريجي قسمي الفلك بكلية العلوم بجامعتي القاهرة والأزهر، ومعظمهم على درجة أستاذ.
- معهد الفلك والجيوفيزياء بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية بالمملكة العربية السعودية، وبه فلكيون أعضاء في الاتحاد الدولي الفلكي من خريجي أقسام الفلك بجامعتي الملك سعود في الرياض والملك عبد العزيز في جدة.
- وهناك مراكزُ فلكيةٌ أخرى كثيرة في العالم العربي والإسلامي في ليبيا وفي الجزائر والمغرب والكويت والأردن وسوريا والعراق ولبنان واليمن والإمارات العربية المتحدة، ومن الدول الإسلامية غير العربية التي بها مراصد متعددة ومتقدمة: إندونيسيا وماليزيا.
هذا غيض من فيض لما هو قائم في مصر ويعرفه كل الفلكيين وعلماء الشريعة بالنسبة لهذا الموضوع الحيوي المهم الذي يتناول حياة المسلمين في أهم جوانب عباداتهم وعلاقاتهم مع بعضهم بعضًا ومع الآخرين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

مشاركة المحتوى